الثلاثاء، 14 أغسطس 2012


حتى نستطيع تحديد مفهوم القيمة في زكاة الفطر  موضوع البحث  يجب أن نعرف: ما معنى زكاة الفطر؟ وما مفهوم القيمة؟ وبماذا تقوم السلع؟.
·       أولاً: زكاة الفطر:
الزكاة لغة: بمعنى البركة والنماء والطهارة والصلاح وصفوة الشيء[1]. قال تعالى: { قد أفلح  من تزكى}[2] أي تطهر، وإنما سمي الواجب زكاة لأنها تطهر صاحبها من الآثام[3]، قال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}[4].
الزكاة شرعاً: للزكاة تعريفات متعددة منها ما جاء في المغني: الزكاة حق يجب في المال[5]، وفي المجموع، الزكاة: اسم لأخذ شيء مخصوص من مال مخصوص على أوصاف مخصوصة لطائفة مخصوصة[6]. وفي نهاية المحتاج، الزكاة: اسم لما يُخرَج عن مال أو بدن على وجه مخصوص[7]، وجاء في جواهر الإكليل، الزكاة: إخراج جزء مخصوص من مال مخصوص بلغ نصاباً لمستحقه إن تم الملك وحال الحول [8].
ومن التعريفات المعاصرة ما جاء في كتاب الملكية في الشريعة الإسلامية، الزكاة: قدر معين من المال يدفعه المسلم، انصياعاً لأمر الله تعالى، بشروط معينة، لينفق في مصارفه المقررة شرعاً [9].
الفطر: اسم مصدر من أفطر الصائم إفطاراً، ويراد بزكاة الفطر: الصدقة عن البدن والنفس، وإضافة الزكاة إلى الفطر من إضافة الشيء إلى سببه[10]4 واختلف في سبب إضافة الزكاة للفطر فقيل من الفطرة، وهي الخلقة لتعلقها بالأبدان وقيل لوجوبها بالفطر[11].
والفطر لفظ إسلامي[12] ويسمى أول يوم من شوال بيوم الفطر تسمية إسلامية، والفطرة مولدة[13] وهي الجبلة التي جبل الناس عليها[14] تزكية لها وتنمية لعملها[15].
وأصل الفطر: الشق يقال، فطر ناب البعير، إذا انشق وطلع، فكأن الصائم يشق صومه[16] يوم الفطر، لذا سميت صدقة الفطر، أو زكاة رمضان، أو زكاة الصوم، أو صدقة الرؤوس، أو زكاة الأبدان[17].
ذكرت كثير من كتب الفقه أن زكاة الفطر: هى زكاة البدن والنفس[18]، وقد عرفها أصحاب معجم الفقهاء: إنفاق مقدار معلوم عن كل فرد مسلم يعيله قبل صلاة عيد الفطر في مصارف مخصوصة[19].
ومن التعريفات السابقة للزكاة شرعاً، وما تعنيه زكاة الفطر في كتب الفقه وفي معجم الفقهاء، يمكن القول: إن زكاة الفطر، هي  إنفاق  مال، محدد شرعاً، يخرجه المسلم عن نفسه وبدنه، ومن يعول، بسبب الفطر، بعد إتمام الصيام، على وجهٍ مخصوصٍ .
·       ثانياً: القيمـة:
القيمة لغة : قيمة الشيء ثمنه الذي يعادل المتاع[20] ويقال، قوَّم السلعة تقويماً: سعرها وثمنها. 
القيمة عند الفقهاء: عرف الفقهاء القيمة عدة تعريفات من ذلك: تعريف ابن حزم: القيمة ما يبتاع بها التجار السلع لا يتجاوزونها إلا لعلة[21]، وعند ابن حجر: قيمة الشيء ما تنتهي إليه الرغبة[22]، وقال العدوي: القيمة، الثمن الذي يشتري به الناس[23]، وقال ابن عابدين: القيمة  ما قوم به الشيء بمنـزلة المعيار من غير زيادة ولا نقصان[24] . وجاء في  مجلة  الأحكام العدلية: القيمة الثمن الحقيقي للشيء وكذلك ثمن المثل[25] .
القيمة في الاقتصاد: تدل هذه الكلمة في الاقتصاد على القيمة التبادلية Value in exchange وهي الكمية من سلعة أخرى التي يجري تبادلها مقابل سلعة معينة، ونظراً لعدم إمكانية تبعيض كثير من السلع اهتدى الإنسان إلى اختيار سلعة ما لقياس القيم النسبية للسلع الأخرى، وتسمى هذه السلعة النقود، وبذلك تكون القيمة التبادلية لأي سلعة هي سعرها الذي يقوم عليه الثمن، وكانت في بادئ الأمر من الذهب أو الفضة، وبعد التطور الاقتصادي الهائل الذي شهده العالم جاءت النقود الورقية لتحل محل الذهب والفضة .
ولكي تكون للسلعة قيمة تبادلية لابد أن تكون سلعة اقتصادية كالقمح والبترول، أي سلعة لها صفة المنفعة economic good[26] وتقوّم قيمة السلعة بسعرها في السوق نقداً.
·       ثالثاً: السـعر:
كمية النقود الوحدات النقدية التي يدفعها الإنسان مقابل شراء أو بيع أي شيء، والسعر إقرار بالقيمة النقدية لوحدة من سلعة معينة أو خدمة[27] والوحدة النقدية لأي دولة هي وحدة تقاس بها قيمة السلع والخدمات في المجتمع[28].
وبعد ذكر التعريفات المختلفة للقيمة، نقول: إن القيمة المقصودة في البحث هي القيمة التبادلية، أي سعرها في السوق.
وبناء على ما سبق ذكره، يمكن القول: إن القيمة في صدقة الفطر  زكاة الفطر مقدار ما يدفع من وحدات نقدية أو ما يقوم مقامها مقابل الكمية المحددة شرعاً من المواد العينية التي حددها الشارع، أو من غالب قوت أهل البلد، صدقة فطر عن المسلم الذي يملك قوته وقوت عياله يوم وليلة العيد.
  والسؤال الذي يمكن طرحه، ما حكم زكاة الفطر بصورة عامة؟

الذي عليه جمهور أهل العلم وجماعة فقهاء الأمصار أنها واجبة فرضاً، أوجبها رسول الله صلى الله عليه وسلم[29]، لما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين أمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة[30] وإنها فريضة[31] لقوله صلى الله عليه وسلم فرض، بمعنى ألزم وأوجب، لأن معنى فرض رسول الله عند أكثر أهل العلم أوجب[32]، ودعوى أن فَرض بمعنى قدّر، مردود، بأن كلام الراوي ـ لاسيما الفقيه ـ محمول على الموضوعات الشرعية[33]، وما أوجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأمر الله أوجبه، وما كان ينطق عن الهوى، فأجمعوا عل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر، وقالت فرقة هي منسوخة بالزكاة، وقال جمهور من أهل العلم من التابعين ومن بعدهم، هي فرض واجب على حسب ما فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعض أهل العلم منهم: مالك بن أنس، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وأبو ثور، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه لم ينسخها شيء. قال إسحاق: هو الإجماع[34].
وقد رأى أبو العالية وعطاء وابن سيرين صدقة الفطر فريضة[35]، والأصل في وجوبها قبل الإجماع، قول ابن عمر: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم[36]، والقول بوجوبها من جهة اتباع المؤمنين لأنهم الأكثر، والجمهور الذين هم حجة على من شذ عنهم، ووجوبها مجمع عليه ولا التفات لمن غلط فقال بعدمه[37].
وجاء في الاستذكار لابن عبد البر، إن بعض المتأخرين من أصحاب مالك وداود، قالوا: إنها سنة مؤكدة[38]، وقال أبو حنيفة: إنها واجبة، وليست بفريضة بناء على مذهبه في التفريق بين الفرض والواجب، حيث إن الفرض ما ثبت بدليل قطعي والـواجب ما ثبت بدليل ظني[39]، وهذا بخلاف الفرض عند الجمهور، حيث يشمل الفرض والواجب عند أبي حنيفة، وبهذا لا خلاف في الحكم، وإنما اختلاف في الاصطلاح.         
ويمكن القول: إن زكاة الفطر واجبة وجوب فرض، لقول ابن عمر السابق، ولإجماع العلماء على أنها فرض، لأن الفرض إن كان واجباً فهي واجبة، وإن كان الواجب المتأكد فهي متأكدة، مجمع عليها[40]، والمشهور إنها فرضت ـ وجبت ـ في السنة الثانية من الهجرة عام فرض الصوم[41] فهي واجبة على كل مسلم فضل عن قوته وقوت من تلزمه مؤنته وحوائجه الأصلية يوم العيد وليلته، صاع ولا يمنعها إلا يُطلبه[42]، أي أن يكون مطالباً بالدين فعليه قضاء الدين ولا زكاة عليه[43].

إن المتتبع للحكمة في فريضة زكاة الفطر يجدها تتعلق بالصائم وبالآخذ لها فهي طهرة للصائم من اللغو والرفث، للغني والفقير
[44] على حد سواء فهي مثل سجود السهو في الصلاة تجبر النقصان في الصيام بما يخدشه من أمور الدنيا[45]، أما الغني فيزكيه الله وأما الفقير فيرد الله عليه أكثر مما أعطى، ففيها بركة للمنفق والآخذ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصيام من اللغو والرفث وطعمه للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات[46].
كما أن في فريضة الزكاة إغناء للفقراء يوم العيد، جاء  ببلغة  السالك وحكمة مشروعيتها ـ أي زكاة الفطر ـ الرفق بالفقراء في  إغنائهم عن السؤال ذلك اليوم [47].
والدليل على أن المقصود من زكاة الفطر إغناء الفقير يوم العيد أن أفضل وقت لإخراجها قبل خروج الناس إلى الصلاة حيث كان هديه صلى الله عليه وسلم إخراج هذه الصدقة قبل صلاة العيد[48]، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة، قال: وكان ابن عمر يعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين[49] وهكذا كان الأمر بإخراج زكاة الفطر في وقت لصيق بعيد الفطر حتى يحصل الغنى، ويكون لدى الفقير ما يكفيه ويغنيه في يوم العيد، وبذلك يدخل السرور على الفقراء والمساكين، ويشعرهم باهتمام المجتمع بهم مما يؤدي إلى الألفة والمحبة بين أفراد الأمة.
قال القفال: والحكمة في إيجاب الصاع ـ أي مقدار زكاة الفطر ـ أن الناس غالباً يمتنعون عن التكسب في يوم العيد وثلاثة أيام بعده، ولا يجد الفقير من يستعمله فيها لأنها أيام سرور وراحة عقب الصوم، والذي يتحصل من الصاع عند جعله خبزاً … هو كفاية الفقير في أربعة أيام [50]، كما أن مقدار زكاة الفطر مقدار قليل وإخراجه مما يسهل على الناس من غالب قوتهم حتى يشترك أكبر عدد ممكن من أفراد الأمة في تأدية هذه الفريضة التي تعتبر كالإسعاف العاجل في مثل هذه المناسبة الكريمة.
وفرض الشارع الطعام ذلك أن الزكاة المالية تتعلق بالمال فأمر الله المزكي أن يواسي المستحقين بما أعطاه الله تعالى، والفطرة زكاة البدن فوقع النظر فيها إلى ما هو غذاء البدن وبه قوامه[51] وهو الطعام من غالب قوت أهل البلد، وهو من أهم ما يحتاجه الفقير. وبناء على ذلك هل يجوز إخراج قيمة الطعام المفروض بدلاً من عينه زكاة فطر؟ أو ما حكم إخراج زكاة الفطر قيمة ؟ هذا ما سنعرض له فيما يلي حسب مذاهب الفقهاء في ذلك .

          اختلف الفقهاء في  جواز إخراج زكاة الفطر قيمة تبعاً لاختلافهم في جواز إخراج القيمة في زكاة المال بصورة عامة، ومن خلال دراسة آراء الفقهاء في زكاة الفطر وما يتصل بها، يمكن حصر مذاهب الفقهاء في إخراج  زكاة الفطر قيمة نقداً في مذهبين رئيسين:
المذهب الأول: جواز إخراج القيمة مطلقاً
كما قال بذلك الإمام أبو حنيفة النعمان وسفيان الثوري وعمر بن عبد العزيز والحسن البصري، وأبو يوسف واختاره من الحنفية الفقيه أبو جعفر الطحاوي وعليه العمل عند الأحناف في كل زكاة وبه قال إسحاق بن راهويه، وأبو ثور ـ عند الضرورة والمقصود بالضرورة الحاجة أو المصلحة الراجحة ـ وغيرهم[52].
وفيما يأتي بعض النقول عن بعض الفقهاء في هذه المسألة:
فقد جاء في موسوعة فقه سفيان الثوري: لا يشترط إخراج التمر أو الشعير أو البر في زكاة الفطر بل لو أخرج قيمتها مما هو أنفع للفقير جاز لأن المقصد منها إغناء الفقراء عن المسألة وسد حاجتهم في هذا اليوم[53]  
وجاء في مصنف ابن أبي شيبه عن قرة قال جاءنا كتاب عمر بن عبد العزيز في صدقة الفطر نصف صاع عن كل إنسان، أو قيمته نصف درهم، وعن الحسن قال: لا بأس أن نعطي الدراهم في صدقة الفطر، وأبو إسحاق قال: أدركتهم وهم يعطون في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام [54] .
وجاء في كتاب المبسوط: فإن أعطى قيمة الحنطة جاز عندنا، لأن المعتبر حصول الغني وذلك يحصل بالقيمة كما يحصل بالحنطة، وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله تعالى يقول: أداء القيمة أفضل، لأنه أقرب إلى منفعة الفقير، فإنه يشتري به ما يحتاج إليه، والتنصيص على الحنطة والشعير كان لأن البياعات في ذلك الوقت بالمدينة يكون بها، فأما في ديارنا البياعات تجري بالنقود، وهي أعز الأموال، فالأداء بها أفضل [55].
و جاء في بدائع الصنائع: وأما صفة الواجب أن وجوب المنصوص عليه من حيث إنه مال متقوم على الإطلاق، لا من حيث إنه عين، فيجوز أن يعطى عن جميع ذلك القيمة دراهم أو دنانير أو فلوساً أو عروضاً أو ما شاء وهذا عندنا  أي الأحناف  أن الواجب في الحقيقة إغناء الفقير، لقوله صلى الله عليه وسلم: أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم، والإغناء يحصل بالقيمة بل أتم وأوفر لأنها إلى دفع الحاجة، وبه تبين أن النص معلول بالإغناء وأنه ليس في تجويز القيمة يعتبر حكم النص في الحقيقة [56].
وجاء  في الهداية شرح بداية المبتدئ: والدقيق أولى من البر والدراهم أولى من الدقيق فيما يروى عن أبي يوسف[57]وجاء مثله  في تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: والدراهم أولى من الدقيق لأنها أدفع لحاجة الفقير وأعجل به يروى ذلك عن أبي يوسف واختاره الفقيه أبو جعفر [58].
وجاء في حاشية مراقي الفلاح: ويجوز دفع القيمة وهي أفضل عند وجدان ما يحتاجه لأنها أسرع لقضاء حاجة الفقير، وإن كان زمن شدة فالحنطة والشعير وما يؤكل أفضل من الدراهم[59] .
من النصوص السابقة يتبين جواز إخراج القيمة في زكاة الفطر حسب رأي من قال بجواز إخراج زكاة الفطر قيمة، وكما هو واضح من النصوص، احتج كثير منهم بأن ذلك أنفع للفقراء، وأدفع لحاجتهم، ويتم به إغناؤهم .
والأحناف الذين هم يتزعمون هذا المذهب على الرغم من قولهم بجواز  أداء القيمة بدل العين  في زكاة الفطر، إلا أنه يجب التنويه إلى ما يلي:
1 أنهم فضلوا أداء الحنطة والشعير وما يؤكل في زكاة الفطر عن الدراهم وقت الشدة ويظهر ذلك فيما ذكر في مراقي الفلاح .
2 لا يجوز أداء المنصوص عليه بعضه عن بعض باعتبار القيمة سواء كان الذي أدى عنه من جنسه أو من خلاف جنسه بعد أن كان منصوصاً عليه، كمن يؤدي نصف صاع حنطة جيدة عن صاع من حنطة وسط، أو نصف صاع من تمر تبلغ قيمته نصف صاع من الحنطة عن الحنطة، لأن القيمة لا تعتبر في المنصوص عليه، وإنما تعتبر في غيره. وأما في خلاف الجنس، فوجه التخريج أن الواجب في ذمته في صدقة الفطر عند هجوم وقت الوجوب أحد شيئين إما عين المنصوص عليه وإما القيمة، ومن عليه الواجب بالخيار إن شاء أخرج العين، وإن شاء أخرج القيمة[60] .
وفي رواية عن أحمد تجزئ القيمة مطلقاً، وعنه تجزئ في غير الفطر[61] والواقع أن ذلك في غير الفطرة، كما يظهر في النص التالي من فتاوى ابن تيمية رحمه الله عن إخراج القيمة في الزكاة: والأظهر في هذا أن إخراج القيمة لغير حاجة، ولا مصلحة راجحة ممنوع منه، ولهذا قدر النبي صلى الله عليه وسلم الجبران بشاتين أو عشرين درهماً، ولم يعدل إلى القيمة، ولأنه متى جوز إخراج القيمة مطلقاً، فقد يعدل المالك إلى أنواع رديئة، وقد يقع في التقويم ضرر، ولأن الزكاة مبناها على المواساة وهذا معتبر في مقدار المال وجنسه وأما إخراج القيمة للحاجة أو المصلحة أو العدل فلا بأس به، مثل أن يبيع ثمر بستانه، أو زرعه بدراهم فهنا إخراج عشر الدراهم يجزيه ولا يكلف أن يشتري تمراً، أو حنطة إذا كان قد ساوى الفقراء بنفسه، وقد نص أحمد على جواز ذلك[62] والواقع أن ذلك في زكاة المال وليس في زكاة الفطر الأمر الذي قاس بعضهم زكاة الفطر على زكاة المال وجوزوا إخراجها قيمة، مما جعل بعضهم يعتمد علىحالات في زكاة المال ليجوز إخراج زكاة الفطر قيمة، فلا حاجة للقول بإطلاق جواز إخراج القيمة، إلا إذا كانت هناك مشقة واضحة أو تعذر إخراج العين في زكاة الفطر، حيث إن المشقة تجلب التيسير، إذا كان هناك ضرورة وحاجة دون المصلحة الكمالية[63].
          وممن قال بجواز إخراج القيمة وفقاً للظروف وتغير المكان شيخ الأزهر الأسبق محمود شلتوت حيث قال: وتكفي قيمة الحبوب من النقود وربما كانت القيمة النقدية أرفق للصائم، وأنفع للفقير، ونظراً لتنوع حاجة الفقير وهو أدرى بها من غيره، وقد لا يتيسر له الاستبدال، فكانت القيمة أدخل في قضاء الحاجة، والذي استحسنه وأختاره لنفسي، أني إذا كنت في المدينة أخرجت القيمة، وإذا كنت في القرية بعثت بالتمر والزبيب والبر والأرز ونحوها هدية المسلم لأخيه في شهر التكريم وعيد السرور [64].
وخلص عبود بن علي بن درع محاضر بفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ـ أبها: إلى أن إخراج القيمة في زكاة الفطر للحاجة والمصلحة أمر جائز إذا كانت القيمة بالنقود دراهم ودنانير والمدفوعة إليهم سكنوا المدن فإن إعطاءهم نقوداً عوضاً عن حنطة أو شعير هو الأنفع لهم ويمكنهم من سد حاجتهم بهذه النقود بسهولة ويسر إذ يستطيعون أن يشتروا بها ما يحتاجون من قوت وغيره. أما بغير حاجة ولا مصلحة راجحة، بل المصلحة في إعطائهم من الأصناف الواردة في الحديث الشريف فلا يجوز الدفع بالقيمة كما لو كان أداء زكاة الفطر في البوادي والقرى النائية حيث الانتفاع وسد الحاجة بالأقوات أيسر من الانتفاع بالنقود وهو اختيار ابن تيمية وغيره [65]  .
وقال محمد  الشريف عميد كلية الشريعة بجامعة الكويت في بحث له: تخرج زكاة الفطر من غالب قوت البلد سواء أكان حباً أم غير ذلك من المطعومات، كاللحم ونحوه، ولا يخرجها من المعيب والمسوس ونحوهما ويجوز إخراجها نقداً، إذا كان في ذلك مصلحة الفقير، أو كان أيسر على المخرج، أو رأى الإمام أو الساعي مصلحة في ذلك [66]. وكل الأقوال السابقة تدور حول منفعة الفقير.
أدلة الذين أجازوا إخراج زكاة الفطر قيمة:
والذين أجازوا إخراج القيمة بدلاً من العين من الحنفية ومن وافقهم من الفقهاء استدلوا بما يلي:
               1) إن الأصل في الصدقة المال، قال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة}[67]، فالمال هو الأصل، وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم المنصوص عليه إنما هو للتيسير ورفع الحرج، لا للتقييد الواجب، وحصر المقصود فيه، لأن أهل البادية وأرباب المواشي تعزّ فيهم النقود، وهم أكثر من تجب عليه الزكاة، فكان الإخراج مما عندهم أيسر عليهم، ألا ترى أنه قال في خمس من الإبل شاة وكلمة شاة للظرف وعين الشاة لا توجد في الإبل، فعرفنا أن المراد قدرها من المال[68]، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة ناقة كوماء فغضب على المصدق، وقال: ألم أنهكم عن أخذ كرائم أموال الناس فقال الساعي: أخذتها ببعيرين من إبل الصدقة، وفي رواية ارتجعتما ببعيرين، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخْذ البعير ببعيرين إنما باعتبار القيمة[69].
               2) إن وجوب المنصوص عليه من حيث إنه مال متقوّم على الإطلاق لا من حيث إنه عين فيجوز أن يعطى عن جميع ذلك القيمة دراهم أو دنانير أو فلوساً أو عروضاً أو ما شاء[70] .
               3) إذا ثبت جواز أخذ القيمة في الزكاة المفروضة في الأعيان، فجوازها في الرقاب أولى وهي صدقة الفطر[71].
               4) يجوز عندهم أن يعطى عن جميع ما ذكر في حديث ابن عمر رضي الله عنهما القيمة دراهم أو دنانير لأن الواجب إغناء الفقير، وإدخال السرور على نفسه، لقوله صلى الله عليه وسلم: أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم. والإغناء يحصل بالقيمة بل أتم وأوفر وأيسر، لأنها أقرب إلى دفع الحاجة تبين أن النص معلول بالإغناء[72]، إذ أن كثرة الطعام تحوجه إلى بيعه بأقل الأثمان للجصول على المال، والقيمة تمكنه من شراء ما يلزمه من الأطعمة والملابس وسائر الحاجات[73].
5 اعتمد المجوّزون أخذ القيمة في زكاة الفطر على حديث أبي سعيد الذي ذكر فيه: … حتى كان معاوية فرأى أن مدّين من برّ تعدل صاعاً من تمر [74]. وفي رواية: فلما جاء معاوية وجاءت السمراء قال: أرى مدّاً من هذا يعدل مدّين [75].
6 أمر النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً حين خرج إلي اليمن بالتيسير على الناس فكان معاذ يأخذ الثياب مكان الذرة، لأنه أهون عليهم، فقد روي عن طاووس أن معاذ رضي الله عنه قال لأهل اليمن ائتوني بعرض ثياب  أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة، أهون عليكم وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، ولا يكون ذلك إلا باعتبار القيمة، أي جواز أخذ العرض، والمراد به ما عدا النقدين، قال ابن الرشيد: وقد وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم[76]. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ العروض في الصدقة من الدراهم[77].وفي إخراج الشاة عن خمس من الإبل دليل على أن المراد قدرها من المال.
7 إن أداء القيمة أهون على الناس وأيسر في الحساب، وهذا يتفق ومصالح الشريعة، كما أنه أيسر بالنظر إلى المناطق الصناعية التي لا يتعامل فيها إلا بالنقود وهو الأنفع للفقراء[78].
8 إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما فرض زكاة الفطر من الأطعمة، إما لندرة النقود عند العرب وإما أن قيمة النقود تختلف وتتغير قوتها الشرائية من عصر إلى عصر بخلاف الصاع والطعام، فكان أيسر علىالناس إعطاء الطعام[79].
وبعد استعراض الأدلة السابقة من النقل والعقل والنظر يمكن الرد على المجوزين إخراج زكاة الفطر قيمة بما يلي:
الردود على من قال بإخراج زكاة الفطر قيمة:
1)       المراد بزكاة الفطر الأعيان لا قيمتها، والواقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما فرض زكاة الفطر صاعاً ذكر أشياء مختلفة القيم فدل أن المراد الأعيان لا قيمتها[80]. وهذا ما يفهم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه حيث قال: كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر عن كل صغير وكبير حر أو مملوك صاعاً من طعام، أو صاعاً من إقط أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من زبيب، فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية حاجاً، أو معتمراً فكلم الناس على المنبر، فكان فيما كلم به الناس أن قال: إني أرى أن مدين من سمراء الشام تعدل صاعاً من تمر، فأخذ الناس بذلك، فقال أبو سعيد: فأما أنا فلا أزال أخرجه أبداً ما عشت[81].
وهذا الحديث يحدد المقدار ولم يحدد القيمة مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن الدنيا ستقبل على المسلمين فلا يعجزه أن يحدد زكاة الفطر بمقدار من الدراهم أو الدنانير، ربما كان ذلك لحكمة أرادها وهي أن قيمة النقود ليست ثابتة لما يعتريها ما يسمى بالتضخم مما يقلل من قيمتها الحقيقية، فجعلت الزكاة من أعيان الاقتيات لأنها كميات لا تتأثر بالأسعار انخفاضا وارتفاعاً، فالحاجة إليها بغض النظر عن قيمتها النقدية، وأما رأي معاوية رضي الله عنه فهو رأي شخصي له ولم يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدل على غلاء البر في ذلك الوقت، فلو طبقنا رأيه الآن في وقت يعادل فيه ثمن صاع من التمر أضعاف ثمن البر هل سنعود إلى اعتبار صاع من التمر يعادل أكثر من صاع من البر؟، هذا الأمر يثبت أن فرض الصاع من الأقوات المذكورة لم ينظر إليه قيمة بل مكيالاً، وهو توقيفي فالمكيلات والعدديات في العبادات لا يجوز إدخال التعديل عليها بتبدل الأزمان والأحوال، فلا يجوز لأحد أن يخرج عما حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لا ينقلب التشريع من تشريع الهي إلى تشريع بشري مزاجي تتلاعب به الآراء .
وكما جاء في فتح الباري: وفي حديث أبي سعيد ما كان عليه من شدة الإتباع والتمسك بالآثار وترك العدول إلى الاجتهاد مع وجود النص، وفي صنع معاوية وموافقة الناس له على جواز الاجتهاد، وهو محمود، لكنه مع وجود النص فاسد الاعتبار [82]  والجمهور يجيبون عنه بأنه قول صحابي وقد خالفه أبو سعيد وغيره من الصحابة، وإذا اختلفت الصحابة لم يكن قول بعضهم بأولى من بعض فنرجع إلى دليل آخر ووجدنا ظاهر الأحاديث والقياس متفقان على اشتراط الصاع من الحنطة كغيرها[83].فالمقصود بالطعام البر أو ما يسمى الحنطة أو القمح، لأن معنى الطعام كل ما يتخذ منه القوت من الحنطة والشعير والتمر، ويطلقه أهل الحجاز والعراق على البر خاصة. قال خليل: إن العالي في كلام العرب أن الطعام هو البر خاصة[84].
والبر مما يطلق عليه اسم الطعام إن لم يكن غالباً فيه[85]، ولم يختلف العلماء أن الطعام المذكور في الحديث هو البر، واعتبار القيمة لا وجه له: لأن قيمة التمر والشعير تختلف أيضاً ولم ينظر إلى ذلك واعتبر المقدار[86].
ومما يثبت أن البر لم يكن مجهولاً لأهل المدينة بل معروفاً حيث كان أهل المدينة يتجرون به ويسلمون فيه، فعن عبد الله ابن أبي أوفى رضي الله عنهما قال: كنا نسلف على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في الحنطة والشعير والزبيب والتمر [87] وفي رواية عنه قال: كنا نسلف نبيط أهل الشام في الحنطة والشعير والزبيب في كيل معلوم إلى أجل معلوم، فقيل له إلى من كان أهله عنده، قال ما كنا نسألهم عن ذلك [88].
ورجح الشوكاني ما ذهب إليه الجمهور أن المفروض زكاة فطر صاع من طعام وهو البر لأن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم فرض صدقة الفطر صاعاً من طعام، والبر مما يطلق عليه اسم الطعام إن لم يكن معهوداً عندهم غالباً فيه وتفسيره بغير البر إنما هو لكونه لم يكن معهوداً عندهم الصاع منه[89].
2 ورأى بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما فرض زكاة الفطر من الأطعمة لندرة النقـود عند العرب في ذلك الحين، فكان إعطاء الطعام أيسر على الناس[90].
والحقيقة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشرع لوقت دون آخر فالإسلام قابل للتطبيق في كل زمان ومكان ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشَّر أمته بأن الدنيا ستفتح عليهم وبشر سراقة  بسواري كسرى وبفتح المدن الواحدة تلو الأخرى ولم يمض وقت طويل حتى فاض بيت مال المسلمين بالأموال من جميع الأصناف الذهب والفضة، ودليل ذلك أن عمر رضي الله عنه فرض للمهاجرين والأنصار ممن شهد بدراً خمسة آلاف خمسة آلاف، وفرض لمن كان إسلامه كإسلام أهل بدر ولم يشهد بدرا أربعة آلاف أربعة آلاف وفرض لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم إثنى عشر ألفاً إثنى عشر ألفاً، وكذلك فرض للعباس، وفرض لأسامة أربعة آلاف، وفرض لعبد الله بن عمر ثلاثة آلاف، وفرض لأبناء المهاجرين والأنصار ألفين، وفرض لنساء المهاجرين والأنصار ستمائة.
وحمل أبو هريرة وأبو موسى الأشعري إلى عمر أموالاً كثيرة متنوعة ولم يقتصر الأمر على الدراهم والدنانير، فعن الزهري عن سعيد رضي الله عنه قال: لما قدم على عمر رضي الله عنه بأخماس فارس قال: والله لا يجنها سقف دون سماء حتى أقسمها بين الناس ..... فأمر بالجلابيب فكشفت عنها فنظر عمر إلى شيء لم تر عيناه مثله من الجوهر واللؤلؤ والذهب والفضة فبكى[91] .
من ذلك نرى أن صدر الإسلام شهد تدفقاً نقدياً على حاضرة الإسلام مما يثبت أن الصحابة كانت لديهم الأموال ولكنهم لم يدفعوا صدقة الفطر نقداً .
يقول الشيخ عبد العزيز بن باز ومعلوم أنه في وقت هذا التشريع وهذا الإخراج كان يوجد بيد المسلمين وخاصة مجتمع المدينة ـ الدينار والدرهم اللذان هما العملة السائدة آنذاك ولم يذكرهما صلوات الله وسلامه عليه في زكاة الفطر، فلو كان شيء يجزئ في زكاة الفطر منهما لأبانه صلوات الله وسلامه عليه، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ولو وقع ذلك لفعله أصحابه رضي الله عنهم [92] .
3  إن زكاة الفطر فرض وإلزام أوجبه الله على عباده وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى فكان تحديده صلى الله عليه وسلم لها بأنواع من الأطعمة، لأن الطعام من الأشياء الضرورية التي يحتاجها الإنسان، ولم يحدد الرسول صلى الله عليه وسلم قيمة بل مكيالاً، لأن أسعار الأقوات مهما ارتفعت لا يتأثر ما يأخذه الفقير بذلك، لأن المضمون له كيلاً لا قيمة، وبذلك تتوافر له كفاية أيام العيد من الطعام مهما غلا ثمنه، وإن زاد عن حاجته فيمكنه ادخاره لوقت لاحق.
4 والذين قالوا بجواز إخراج القيمة لزكاة الفطر لم يعتمدوا على أدلة نقلية  عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعظم أدلتهم كانت أدلة اجتهادية، وما اعتمدوا عليه من مسألة الجبران في زكاة السائمة مشروطة، وهذا لا يندرج على زكاة الفطر لأن المنصوص على إخراجه موجود وميسور وتحت اليد من غالب قوت البلد حيث إن المفقود في زكاة السائمة إذا وجد الأكمل منه أو الأنقص شرع الجبران ويظهر ذلك في كتاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه لأنس رضي الله عنه، حيث كتب له فريضة الصدقة التي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنما تقبل منه الحقة ويحمل معها شاتين، إن استيسرتا له أو عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده الحقة وعنده الجذعة فإنها تقبل منه الجذعة ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين...[93].
5 أما القول بأن القيمة تمكنه من شراء ما يلزمه من الأطعمة وسائر الحاجات، نقول: هل يعتمد الفقير في تأمين حاجاته على زكاة الفطر فقط؟ وهل زكاة الفطر كل ما يصل إلى الفقير من أموال الأغنياء؟.
إن زكاة الفطر ليست الوسيلة الوحيدة التي يحصل بها إغناء الفقراء أو سد حاجاتهم وإدخال السرورعلى أنفسهم، بل هناك من الوسائل التي قررها الإسلام ما يجعل مساهمة زكاة الفطر مساهمة ضئيلة، فهناك زكاة الأموال وكفالة القادرين لأقاربهم الفقراء، والأوقاف المختلفة والوصايا والميراث والكفارات والنذور والصدقات التطوعية ...الخ . فحقوق الفقراء في أموال الأغنياء كثيرة .
قال تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربـى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون }[94].
فإذا كان الناس في حياة ضنك وضيق فهم أحوج إلى الطعام وبخاصة في بعض أوقات الشدة حيث لا يستطيع المرء الحصول على الطعام إلا بشق الأنفس وزكاة الفطر توفر بعض الطعام للفقراء، أما إذا كان الناس في حياة رخاء وسعة فزكاة المال تعم جميع الفقراء، ولا يحتاج الفقير لأخذ زكاة الفطر لا عيناً ولا نقداً لصغر قيمتها المادية، وسيأتي زمان يطوف المرء بزكاة ماله ولا يجد من يأخذها، فكيف بزكاة الفطر .
والمتتبع للأوضاع في الأقطار الإسلامية يجد أنه لا يخلو أي قطر إسلامي من مؤسسات ولجان الزكاة التي تشمل رعايتها معظم الفقراء[95] الذين يأخذون رواتب شهرية منتظمة في الغالب، فزكاة الفطر لا تتكرر إلا مرة واحدة فلا يعقل أن يُعوّل الفقير على هذه الوسيلة لتأمين ما يلزمه من الحاجات المختلفة .
ولنأخذ مثلاً على ضآلة زكاة الفطر بالنسبة لزكاة المال، فقد قدرت الزكاة من قبل لجنة مختصة في الأردن عام 1994 م بمبلغ 286 مليون دينار أردني وكان عدد سكان الأردن في ذلك الوقت لا يتجاوز الأربعة ملايين فإن قيمة زكاة فطرهم لا تتجاوز مليوني دينار أردني على اعتبار أن قيمة زكاة الفطر للفرد كانت نصف دينار تقريباً[96] بهذا لا تشكل زكاة الفطر سوى 0.7% من زكاة المال، هذا بالإضافة إلى وسائل التكافل الاجتماعي الأخرى والتي دعا إليها الإسلام، فزكاة الفطر لا يُعوّل عليها لسد حاجات الفقراء، وإغنائهم.
والواقع إن الإغناء يحصل يوم العيد بسبب زكاة الفطر بالإخراج المنصوص عليه، وهو صاع من الطعام، من الأجناس التي حددها الشارع، وللحكمة التي أرادها، والعدول عن المنصوص عليه خروج عن قول الشارع الذي قال عنه ربه تبارك وتعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى }[97].
6 ومن اعتمد على أحاديث جواز إخراج نصف صاع، أو إخراج  مدين كما روي عن البخاري ومسلم عن ابن عمر "أمر النبي صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير قال عبد الله: فجعل الناس عدله مدين من الحنطة" [98] . يفهم من  ذلك أنه ليس بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما ما روي عن عمر بن الخطاب أنه جعل نصف الصاع من حنطة مكان صاع من التمر والشعير وغيره فهذا القول فيه ضعف[99]، وقد اختلف الناس في هذا فقال مالك والشافعي وأحمد وإساحق: لا يجزيه من البر أقل من صاع، وروي ذلك عن الحسن وجابر بن زيد وقال أصحاب الرأي والثوري: يجزيه نصف صاع من بر فأما سائر الحبوب فلا يجزيه أقل من صاع غير أن أبا حنيفة قال يجزيه من الزبيب نصف صاع كالقمح، وروي جماعة من الصحابة إخراج نصف صاع من بُرّ فإن صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أن نخرج صاعاً من قمح فأخرج نصف صاع على سبيل البدل على رأي معاوية وغيره رضي الله عنهم فإنه لا يجزئ لما فيه من ربا[100]، فرسول الله صلى الله عليه وسلم فرض مكيال الصاع من الطعام وأما ما روي عن نصف صاع فأحاديث لا يحتج بها[101]، والأصل في صدقة الفطر صاع من طعام وأنه لا يجوز إلا الصاع منه[102].
قال البيهقي: وقد وردت أخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في صاع من بر ووردت أخبار في نصف صاع ولا يصح شئ من ذلك [103] .
ولو كان نصف صاع من بر مذهب الخلفاء الراشدين وكثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زكاة الفطر، لما جعل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه يقول برأيه ويأخذ الناس برأيه لأنه لو كان معمولاً به لما كان جديداً على الناس ولو بلغهم شئ من ذلك لعملوا به قبل قول معاوية .
واعتمد بعضهم على رأي معاوية بن أبي سفيان الذي قال: إن نصف صاع من البر يعدل صاعاً من التمر عارضه رأي صحابي فأبو سعيد الخدري قال بالصاع على سبيل العموم، وبما أنه لم يخصص البر بنص صحيح ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز الاجتهاد مع وجود النص على الصاع على العموم، ومعاوية صحابي عارضه صحابي آخر أقدم منه صحبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم[104].
وجاء في نيل الأوطار، قال ابن المنذر: لا نعلم في القمح خبراً ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم يعتمد عليه ولا إجماع في المسألة [105].
من هذا نستنتج أن نصف الصاع لا يجزئ قيمة لزكاة الفطر حيث اعتمد كثيرون على أحاديث نصف الصاع لإجازة إخراج القيمة حيث عدلوا الصاع من التمر بنصف صاع بر.
7 إن الذين أجازوا إخــراج القيمة في زكاة الفطر اعتمدوا على أدلة مخصصة بزكاة الأموال كالجبران مع وجود ضرورة لذلك ولم يكن ذلك على سبيل الإطلاق مع الاختلاف البين بين طبيعة زكاة الأموال وزكاة الفطر.
ومن اعتمد على حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه في أخذ العروض كما روى طاووس[106] ففي هذا الحديث نظر وتفصيل حيث قيل إنه في الجزية وغير ذلك ولا ينطبق على زكاة الفطر .
8 القول: لو أُعطى الفقراء قمحاً أو شعيراً أو تمراً في عصرنا الحاضر فإنهم يضطرون لبيعها بأرخص الأثمان وبما تيسر لاستبدالها بقوتهم اليومي فمثلاً الشعير لا يستعمل في الطعام إلا في إطعام الحيوانات، والتمر لم يعد طعاماً وإنما أصبح فاكهة في بعض بلاد المسلمين وبذلك أصبح الطعام يطلق على الأرز بدلاً من الشعير في كثير من بلاد المسلمين وبذلك تنقص قيمة الفطرة عن حقيقتها [107]
هذا القول لا يصح أصلاً لأن إخراج زكاة الفطر من غالب قوت البلد فإذا كان غالب قوت البلد قمحاً أو شعيراً أو أرزاً أو تمراً فلا بأس به، حتى التمر الذي قيل عنه فاكهة إذا أخرجه المسلم فهذا شئ طيب لأن أسعاره مرتفعة جداً.
إن الأصناف التي حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأصناف التي تدخر وتبقى مدة طويلة ويقتات بها فلو كان الفقير فقيراً حقاً فإنه يدخر ما يعطى له ويستعمله في وقت لاحق، إذا وصل ما يأخذه الفقير من الأصناف المذكورة مؤنة سنة كاملة لأن أساس الفقر هو عدم وجود كفاية الطعام، والحفاظ على النفس بتأمين الطعام من الضروريات التي قال بها الشاطبي في الموافقات، والأمن الغذائي من الأمور التي تحرص عليها الدول المعاصرة .
وأما القول إن الشعير لا يستعمل في الطعام فهذا يدل على عدم اطلاع بعضهم على أحوال المسلمين في البلاد المختلفة، فالشعير لا يزال يؤكل في كثير من الأقطار العربية والإسلامية إلى يومنا هذا حسب ما عايشت .
وأما إذا لم يوجد من يأخذ الأصناف المذكورة في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أي طعام يعتبر من غالب قوت البلد فهم أغنياء عن الطعام فيمكن نقل صدقات المنطقة إلى المناطق المحتاجة لها، حيث يمكن نقل زكاة الفطر من الحاضرة للقرى والبادية إذا  استغنى فقراء الحاضرة بما يصل إليهم من أموال الأغنياء[108] لأن الأصل إغناء الفقراء عن السؤال يوم العيد وطعمه للمساكين، والسؤال أصلاً لتأمين الطعام .
هنا سؤال يطرح: لماذا يبيع الفقير صدقة الفطر وهو المحتاج للطعام ؟ والجواب لا ضرورة لبيع صدقة الفطر وإذا كان لا يحتاج الفقير لطعام فهو ليس بفقير ولا يستحق صدقة الفطر .
9 إن القول: إن أداء القيمة أهون على الناس وأيسر في الحساب وهذا يتفق ومصالح الشريعة وخاصة إذا كانت هناك إدارة أو مؤسسة تتولى جمع الزكاة وتفريقها، فأخذ العين يؤدي إلى مؤنة وكلف كثيرة ينافي مبدأ الاقتصاد في الجباية، كما أنه أيسر بالنظر إلى المناطق الصناعية التي لا يتعامل الناس فيها إلا بالنقود وهو الأنفع للفقراء أيضاً[109].
هذا القول إذا انطبق على زكاة المال فلا ينطبق على زكاة الفطر لطبيعتها الخاصة، ولمحلية صرف الزكاة بصورة عامة وزكاة الفطر بخاصة حيث إن الأصل صرف الزكاة في مكان جبايتها إذا تولتها الدولة وعدم نقلها إلا للضرورة والمصلحة.
          أما مسألة الحساب واليسر فزكاة الفطر تتصف بالوضوح واليقين واليسر والملاءمة، صاع من طعام من غالب قوت البلد، ولا تحتاج لجهد عظيم في جبايتها حيث إن زكاة الفطر تصرف في آخر رمضان فوقتها محدد وبخاصة أن معظم الناس يؤدونها بأنفسهم في اليومين الأخيرين من شهر رمضان.
وأما التعامل بالنقد وغيره فالعادة لا تعتبر سنة والنفع الحاصل بالعين أكثر منه بالنقد إذا نظرنا إلى الموضوع بواقعية .
هذا ولا يجـوز التفريق بين أهل المدن وأهل القرى في إخراج زكاة الفطر فالحكم الشرعي والنص يطبقان على الجميع، فالفقير هو نفسه في أي مكان محتاج لتوفير الطعام ومن غالب قوت البلد.
والواقع أن كثيراً من الدول الإسلامية تأخذ بهذا المذهب حتى أن بعض الدول ومنها الجمهورية اليمنية تكلف أناساً معينين في كل ناحية لجمع زكاة الفطر وإيداعها لدى مصلحة الواجبات لتوزعها على الفقراء بمعرفة الدولة .
وتصدر فتاوى سنوية في المملكة الأردنية الهاشمية - وغيرها من الدول العربية والإسلامية - تحدد قيمة زكاة الفطر نقداً بما تساويه من القروش الأردنية، ويأخذ معظم الناس بهذه الفتوى، فقد حددت عام 1421هـ بمبلغ ستين قرشاً أردنياً عن كل نفس، وهذا المبلغ قيمة صاع من قمح .
ورغم ما تذهب إليه كثير من الدول الإسلامية فلا يعني ذلك أن هذه هي السنة التي أرادها المصطفى صلى الله عليه وسلم .
          من خلال الردود السابقة يتبين لنا أن إخراج زكاة الفطر يجب أن يكون كما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام .
ولكن على ماذا اعتمد المانعون من إخراج زكاة الفطر قيمة، وما هي أقوالهم في هذه المسألة؟ هذا ما سنعرضه في المذهب الثاني.
المذهب الثاني:
عدم جواز إخراج القيمة في زكاة الفطر، وهو مذهب جمهور الفقهاء. 
و هذا المذهب هو الصحيح عند مالك والشافعي لا تجزئ القيمة عنده بلا خلاف، وفي مذهب الإمام أحمد لا يجوز إخراج القيمة في الزكاة، وقد تشدد الإمام ابن حزم في إخراج عين المنصوص عليه في حديث ابن عمر واقتصر في ذلك على التمر والشعير. وفيما يلي آراء بعض الفقهاء في هذا المذهب:
          جاء في المدونة قلت ما الذي يؤدى منه صدقة الفطر في قول مالك فقال القمح والشعير والسلت والذرة والأرز والدخن والتمر والزبيب والأقط قال: قال مالك لا أرى لأهل مصر أن يدفعوا إلا البر لأن ذلك جل عيشهم، وجاء إلا أن يغلو سعرهم يكون عيشهم الشعير فلا أرى به بأساً قال مالك وأما ما ندفع نحن في المدينة فالتمر [110]. وكما هو ظاهر في المدونة أن الأصناف التي حددها مالك تسعة أصناف، ولم يتطرق لذكر القيمة والحاصل أنه إذا كان القوت واحداً من تسعة فإنه يخرج ما غلب أقتياته، فإن لم يقتت شئ من التسعة واقتيت غيرها فإنه يخرج مما غلب أقتياته من غير التسعة أو مما انفرد بالاقتيات من غيرها وهذا حيث لم يوجد شئ من التسعة ... فإن وجد شئ منها أخرج منه إن كان الموجود منها واحداً فإن تعدد فإنه يخير في الإخراج من أي صنف منها [111]  .
وجاء في كتاب الأم للشافعي: ويؤدي الرجل من أي قوت كان الأغلب عليه من  الحنطة أو الذرة أو العلس أو الشعير أو التمر أو الزبيب، وما أدى من هذا أدى صاعاً بصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يؤدي من يخرج من الحبّ إلا الحبّ نفسه، لا يؤدي سويقة ولا دقيقاً ولا يؤدي قيمته [112].
وفي كتاب الكافي في فقه أهل المدينة المالكي: ولا يجزئ فيها ـ أي زكاة الفطر ـ ولا في غيرها من الزكاة القيمة عند أهل المدينة وهو الصحيح عن مالك، وأكثر أصحابه، وقد روي عنه وعن طائفة من أصحابه أنه تجزئ القيمة عمن أخرجها في زكاة الفطر قياساً على جواز فعل الساعي إذا أخذ عن السن غيرها، أو بدل العين منها، والأول هو المشهور في مذهب الإمام مالك وأهل المدينة [113].
وجاء في المغني: أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر أجناساً معدودة فلم يجز العدول عنها كما لو أخرج القيمة، وذلك لأن ذكر الأجناس بعد ذكر الفرض تفسير للمفروض فتكون هذه الأجناس مفروضة والإغناء يحصل بالإخراج من المنصوص عليه [114].
وجاء في المغني أيضاًوقال أبو داود: قيل لأحمد وأنا أسمع أعطى دراهم يعني في صدقة الفطر قال أخاف أن لا يجزئه خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لي أبو طالب قال لي أحمد: لا يعطى قيمته، قيل له قوم يقولون عمر بن عبد العزيز كان يأخذ بالقيمة قال يدعون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون قال فلان: قال ابن عمرفرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال تعالى: {وأطيعـوا الله وأطيعوا الرسول } وقال قوم يردون السنن قال فلان، وظاهر مذهبه، إنه لا يجزئه إخراج القيمة في شئ من الزكوات وبه قال مالك والشافعي [115].
وذكر ابن قدامة عن أحمد في الشرح الكبير على متن المقنع جواز إخراج القيمة في غير زكاة الفطر[116].
وقال المرداوى في الإنصاف: ولا يجوز إخراج القيمة في الزكاة هذا المذهب مطلقاً أي مذهب الإمام أحمد أعني سواء كان ثمَّ حاجة أم لا، لمصلحة أم لا، لفطرة وغيرها وعليه أكثر الأصحاب وجزم به في الوجيز وغيره، وقدمه في الفروع وغيره، وعنه تجزئ القيمة مطلقاً، وعنه تجزئ في غير الفطرة [117].
وجاء في كفاية الأخيار: وشرط المخرج أن يكون حباً فلا تجزئ القيمة بلا خلاف، وكذا لا يجزئ الدقيق ولا السويق ولا الخبز لأن الحب يصلح لما لا تصلح له هذه الثلاثة، وهو مورد النص فلا يصح إلحاق هذه الأمور بالحب لأنها ليست في معنى الحب [118].
          وتشدد ابن حزم  في مسألة إخراج زكاة الفطر عيناً حيث قصرها على التمر والشعير فقط ويظهر ذلك واضحاً في كتابه المحلي بقوله: زكاة الفطر من رمضان فرض واجب على كل مسلم كبير أو صغير، ذكر أو أنثى، حر أو عبد، وإن كان من ذكرنا جنيناً في بطن أمه عن كل صاع من تمر أو صاع من شعير، ولا يجزئ شئ غير ما ذكر، ولا قمح ولا دقيق قمح أو شعير أو خبز ولا قيمة ولا شئ غير ما ذكرنا[119].
ولم يكتف ابن حزم بعدم جواز إخراج قيمة المفروض في زكاة الفطر بل اقتصر زكاة الفطر على التمر والشعير اعتمادًا على حديث ابن عمر، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على كل نفس من المسلمين حر أو عبد أو رجل أو امرأة صغير أو كبير صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير[120] وأيد ما ذهب إليه أيضاً بما ورد عن أبي مجلز قال: قلت لابن عمر: إن الله قد أوسع، والبر أفضل من التمر ! يعني في صدقة الفطر، فقال له ابن عمر: ان أصحابي سلكوا طريقاً فأنا أحب أن أسلكه [121].
فابن عمر حسب ما ذكر ابن حزم كان لا يخرج إلا التمر أو الشعير ولا يخرج البر اقتداء بالصحابة رضوان الله عليهم .
كما ذكر ابن حزم عن أفلح بن حميد: كان القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق يخرج زكاة الفطر صاعاً من تمر .
وعن طريق هشام بن عروة عن أبيه: أنه كان إذا كان يوم الفطر أرسل صدقة كل إنسان من أهله صاعاً من تمر.  
وعن طريق ابن أبي شيبة: حدثنا حماد بن مسعدة عن خالد بن أبي بكر قال: كان سالم بن عبد الله لا يخرج إلا تمراً، يعني في صدقة الفطر.
فهؤلاء ابن عمر والقاسم وسالم وعروة لا يخرجون في صدقة الفطر إلا التمر وهم يقتاتون البر بلا خلاف، وأن أموالهم لتتسع إلى إخراج صاع دراهم عن أنفسهم  ولم يؤثر ذلك في أموالهم رضي الله عنهم [122].
ولكن تشدد ابن حزم تضييق على الأمة حيث ربما لا يوجد في بعض البلدان تمر أو شعير إلا نادراً، وذلك بسبب مذهبه الظاهري، فهنا لا يكلف المسلم بتأمين المنصوص عليه في الحديث السابق بل يخرج الميسور من غالب قوت البلد.     
وجاء في موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي: لا تجزئ القيمة ولا البدل في شئ من الزكوات كلها وهذا عمل أبي بكر بحضرة جميع الصحابة لا يعرف منهم مخالف أصلاً[123].
وجاء في فتاوى اللجنة  الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء حول مقدار زكاة الفطر زكاة الفطر صاع من تمر أو شعير أو زبيب أو طعام[124] ولم تتطرق الفتوى إلى إخراج القيمة، وقد قال الشيخ عبد العزيز بن باز، رحمه الله تعالى مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء سابقاً: ولا نعلم أن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أخرج النقود في زكاة الفطر وهم أعلم الناس بسنته صلى الله عليه وسلم وأحرص الناس على العمل بها، ولو وقع منهم شئ من ذلك لنقل كما نقل غيره من أقوالهم وأفعالهم المتعلقة بالأمور الشرعية وقد قال الله سبحانه وتعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة }[125] وقال عز وجل: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيه أبدا ذلك الفوز العظيم }[126] [127].
وأما أبو بكر الجزائري  من علماء المدينة المنورة المعاصرين  فقال: الواجب أن تخرج زكاة الفطر من أنواع الطعام، ولا يعدل عنه إلى النقود إلا لضرورة إذ لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج بدلها نقوداً بل لم ينقل عن الصحابة إخراجها نقوداً [128].
من الأقوال السابقة تبين أن الواجب إخراج زكاة الفطر عيناً من الطعام: وقد اعتمد المانعون إخراج زكاة الفطر قيمة على أدلة عديدة .
أدلة المانعين إخراج زكاة الفطر قيمة:
اعتمد المانعون إخراج زكاة الفطر قيمة على عدة أدلة:
1)  حديث ابن عمر المتفق عليه، فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر… الخ[129]، ولم يذكر القيمة ولو جازت لبينها، فقد تدعو الحاجة إليها[130]، ومن يدفع  القيمة لم يعط ما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم[131]، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة [132]، وهو وارد بياناً لمجمل قوله تعالى: {وآتوا الزكاة…}[133] فتكون الشاة المذكورة هي الزكاة المأمور بها، والأمر يقتضي الوجوب، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فرض الصدقة على هذا الوجه، وأمر بها أن تؤدى، وكذلك ما يتعلّق بصدقة الفطر[134] يجب أداء المنصوص عليه.
2)  حديث معاذ بن جبل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بعثه لليمن: خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقر من البقر [135]فهذا نص لا يجوز تجاوزه إلى أخذ القيمة لأنه سيأخذ شيئاً غير المنصوص عليه وهو خلاف ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما مسألة الجبران كما في قوله صلى الله عليه وسلم: من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده جذعة وعنده حقّة، فإنها تقبل منه الحقة، ويُحمل معها شاتين إن استيسرتا له، أو عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة الحقّة وليست عنده الحقة، وعنده الجذعة فإنها تُقبل منه الجذعة، ويعطيه المتصدق عشرين درهماً أو شاتين[136]، ولو كانت القيمة مجزية لم يقدره، بل أوجب التفاوت بحسب القيمة[137].   
3)  إن النبي صلى الله  عليه وسلم فرض أجناساً متعددة، متفاوتة في القيمة، فلم يجز العدول عنها، كما لو اخرج القيمة وذلك لأن ذكر الأجناس بعد ذكره الفرض تفسير للمفروض، فتكون هذه الأجناس مفروضة، ولأنه إذا أخرج غيرها عدل عن المفروض، المنصوص عليه فلم يجز، كإخراج القيمة، وكما لو أخرج عن زكاة المال من غير جنسه كمن أخرج زكاة البقر غنماً، والإغناء يحصل بالإخراج المنصوص عليه[138].
4)  إن الزكاة وجبت لدفع حاجة الفقير وشكر الله على نعمة المال والحاجات متنوعة، فينبغي أن يتنوع الواجب ليصل إلى الفقير من كل نوع ما تدفع به حاجته، ويحصل شكر النعمة بالمواساة بجنس ما أنعم الله عليه به، ولأن مخرج القيمة قد عدل عن المنصوص فلم يجزئه، كما لو أخرج الردىْ مكان الجيد وحديث معاذ رضي الله عنه الذي رووه عن الجزية بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بتفريق الصدقة في فقرائهم ولم يأمره بحملها إلى المدينة[139].
5)  إن الزكاة قربة إلى الله وكل ما كان كذلك فسبيله أن يتبع فيه أمر الله تعالى، فما يجب لله بأمره يجب الإتباع، مثال ذلك، لو قال إنسان لوكيله اشتر ثوباً، وعلم الوكيل أن غرضه التجارة، ولو وجد سلعة هي أنفع لموكله  لم يكن له مخالفته، وإن رآه أنفع[140]، كذلك لا يجوز في الزكاة إخراج قيمة الشاة والبعير، لأن ذلك خروج عن النص، وعلى معنى التعبد، والزكاة كالصلاة.
6)  إن الشرع نص على بنت مخاض، وبنت لبون، وحقه، وجذعة، وتبيع، ومسنة، وشاة، وشياه، وغير ذلك من الواجبات، فلا يجوز العدول، كما لا يجوز في الأضحية ولا في المنفعة ولا في الكفارة، وغيرها من الأصول، حيث لا تجزيء القيمة في الأضحية، وكذا لو لزمه عتق رقبة في كفارة لا تجزيء قيمتها.وكذا في زكاة الفطر لأنه منصوص عليها بالطعام[141].
الردود على من قال بعدم جواز إخراج زكاة الفطر قيمة:
1)  ما ذكر في حديث ابن عمر رضي الله عنهما من أنواع في صدقة الفطر كانت في زمنهم قوتاً معتاداً للناس يدخر ويتداول كالدراهم، فالبر والشعير والتمر كانت نقوداً سلعية في ذلك الوقت لقياس قيم السلع الأخرى[142]، لذا جاز إخراج القيمة في زكاة الفطر .ولكن يجب أن نعرف أن الرسول صلى اله عليه وسلم كان يعرف النقود والدليل على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر، فجاءه بتمر جنيب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا، فقال: لا، والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تفعل، وبع الجمع بالدراهم، وابتع بالدراهم جنيباً [143]، فمقياس القيم موجود سواءً الدرهم أو الدينار.
2)  أما حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، خذ الحب من الحب إن في إسناده عطاء عن معاذ ولم يسمع من معاذ[144].
وأما مسألة الجبران فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك لأن تفاوت ما بين السنين في زمانه كان ذلك القدر لا أنه تقدير شرعي، ولأنا لو قدرنا تفاوت ما بين السنين بشيء أدى إلى الإضرار بالفقراء أو الإجحاف بأرباب الأموال فإنه إذا أخذ الحقة ورد شاتين فربما تكون قيمتها قيمة الحقة، فيصير تاركاً للزكاة عليه معنى، وإذا أخذ بنت مخاض وأخذ الشاتين فقد يكون آخذاً للزكاة يأخذهما وبنت المخاض تكون زيادة وفيه إجحاف بأرباب الأموال[145].
ولكن هذا خاص بزكاة المال، وقد رد على هذه المسألة .
3)  إن الإغناء يحصل بأداء القيمة كما يحصل بأداء الشاة وربما يكون سد الخلة بأداء القيمة أظهر[146].
4)  إن شكر الله عز وجل على نعمة المال يكون بإخراج الزكاة من جنس ما أنعم اله عليه به لدفع حاجة الفقير، وهذا موضوع النزاع فلا يجوز الاحتجاج بنفس الدعوى، وأخذ القيمة حينئذ يكون مما أوجبه الله في شرعه[147].
5)  إن ما بيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنواع تؤدى منها الزكاة للتيسير لا للتقييد، والتصدق بالقيمة قربة وفيه سد خلة الفقير فيحصل به ما هو مقصود[148] .
6)  إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خمس من الإبل شاة وكلمة في للظرف وعين الشاة لا توجد في الإبل، فعرفنا أن المراد قدرها من المال[149].
وفي ردود المانعين إخراج زكاة الفطر قيمة ردّ على ردود المجوّزين إخراج زكاة الفطر قيمة والله أعلم.