الأربعاء، 22 فبراير 2012

سقوط الحضارات


الدولة الأموية - دولة الفتوحات - ‏.‏‏.‏ تسقط ‏!‏‏!‏
في عام ‏(‏41 هـ - 661م ‏)‏ ويسمى عام الجماعة - تنازل الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، عن حرب معاوية بن أبي سفيان ، الذي كان واليا على الشام منذ عهد عمر بن الخطاب ، والذي رفض مبايعة علي بن أبي طالب - رابع الخلفاء الراشدين - متذرعا بأن عليا قد فرط في الثأر من قتلة عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين ‏.‏‏.‏‏.‏ رضي الله عنهم جميعا ‏.‏
وبتنازل الحسن استقر الأمر لمعاوية فأصبح خليفة المسلمين ، وقامت دولة بني أمية التي تنتسب إلى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، فحكمت نحو تسعين عاما ‏(‏ 41 - 132هـ ‏)‏ ‏(‏ 661 - 750م ‏)‏ ونقلت عاصمة الحكم من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجاز إلى دمشق بالشام ‏.‏
كان نظام الحكم في عهد بني أمية عائليا ، وقد تداول الحكم أربع عشرة خليفة أولهم معاوية وآخرهم مروان بن محمد الذي قتله العباسيون في ‏"‏ أبو صير ‏"‏ من حلوان مصر ‏.‏‏.‏
 الخلفاء الأمويون ‏:‏
1 - كان معاوية أول الخلفاء الأمويين ومؤسس دولتهم ، وكان مولده بالخيف من منى قبل الهجرة بخمس عشرة سنة وأمه هند بنت عتبة، وأبوه أبو سفيان ، وقد أسلموا جميعا في فتح مكة ‏.‏
وأصبح معاوية من كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، واشترك في حروب الردة مع أخيه وأبيه ، ثم ولاه عمر جزءا من بلاد الشام ، فلما جاء عثمان رضي الله عنه جمع الشام كلها تحت حكمه ‏.‏
2 - وبموت معاوية سنة 60هـ بايع المسلمون ابنه يزيد ، ما عدا الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر ، وقد وقف الأولان منه موقف العداء ، وقتل في عهده الحسين ، في كربلاء ، وحكم ثلاث سنوات ثم مات سنة 64هـ ، وعمره ثمانية وثلاثون عاما ‏.‏
3 - ثم تولى معاوية بن يزيد ، بوصاية أبيه ، لكنه كان ورعا زاهدا فتنازل عن الخلافة بعد ثلاثة أشهر ‏.‏
4 - وقد وقعت حروب انتهت في ‏(‏ مرج راهط ‏)‏ بين الأمويين وعبد الله بن الزبير ، وأصبح مروان بن الحكم خليفة على الشام وحدها ، وبقي ابن الزبير خليفة على سائر الأمصار ، حتى ظهر عبد الملك بن مروان ، فتمكن من توحيد العالم الإسلامي الشرقي تحت إمرته ، ولذا اعتبر المؤسس الثاني للدولة الأموية ‏.‏
5 - وكانت لعبد الملك أياد عظيمة ، فقد عرب الدواوين وضرب العملة ، وبقي في الحكم اثنين وعشرين عاما ، وتوفي سنة 86هـ ، فتولى بعده ابنه الوليد بن عبد الملك ، الذي حكم عشرة أعوام ، وتمت في عهده إصلاحات داخلية عظيمة وفتوحات إسلامية كبرى على يد قادة عظام مثل محمد بن القاسم الثقفي فاتح السند، وموسى بن نصير فاتح الأندلس ‏.‏
6 - ثم جاء بعده أخوه سليمان بن عبد الملك فحكم ثلاثة أعوام لم تتقدم فيها الدولة شيئا ، لا من الداخل ولا من الخارج ، ومات سنة 99هـ ، فوسد الأمر لأعظم شخصية في تاريخ بني أمية ، على الرغم من أنه لم يحكم إلا عامين ، وهو عمر بن عبد العزيز ، الذي اعتبره البعض ‏(‏خامس الخلفاء الراشدين ‏)‏ لكثرة ما عمل من إصلاحات خلال الفترة الوجيزة التي حكم فيها ‏.‏
لقد راقب عمر الولاة بحذر ، وأخذ على أيديهم وطرد القساة منهم ، وانتشر الإسلام في عهده انتشارا كبيرا لأنه وضع الجزية عمن يعتنق الإسلام ، وكان ولاة السوء لا يفعلون ذلك ، ويروي ابن عبد الحكم ، ملخصا عهد عمر بن عبد العزيز ، في قوله الوجيز ‏"‏ إنما ولي عمر بن عبد العزيز سنتين ونصفا فذلك ثلاثون شهرا ، فما مات حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول ‏:‏ اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء ، فما يبرح حتى يرجع بماله يتذكر من يضعه فيهم فلا يجده ، فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس ‏"‏ ‏.‏
7 - ثم ولي الأمر بعده يزيد بن عبد الملك ، بعهد من أخيه سليمان بعد ابن عمه عمر بن عبد العزيز ، وهو ابن تسع وعشرين سنة ‏.‏ فدامت خلافته أربع سنوات وشهرا ، ثم مات بعدها دون أن يترك أثرا ذا بال اللهم إلا إخماده لفتنة يزيد بن المهلب ‏.‏
8 - وولي بعده هشام بن عبد الملك ، فمكث في الخلافة عشرين عاما حاول فيها تقليد عمر بن عبد العزيز ، ولم ينجح في ذلك نجاحا كبيرا ، وإن كانت الدولة قد اتسعت في عهده ، ففتحت قيسارية وبلاد الخزر ، وأرمينية ، وشمال آسيا الصغرى ، وجزءا كبيرا من بلاد الروم ‏.‏
لكن الأحوال الداخلية لم تكن مستقرة على عهده وتوفي في عام 125هـ ، وترك الحكم للوليد بن يزيد بن عبد الملك الذي يعتبر عهده - الذي لم يدم أكثر من عام إلا قليلا - من أسوأ عهود الدولة الأموية ، ظلما وانتقاما من أبناء سلفه هشام فضلا عن عنصريته وخلاعته ‏.‏
9 - ولم يكن للخليفتين اللذين وليا بعده يزيد بن الوليد بن عبد الملك ، وإبراهيم ابن الوليد أثر يذكر ، ولم يدم حكم كل منهما إلا ثلاثة أشهر ، ولم تستقم لهما الأمور ، وكانت أيامهما ، وأيام سابقهما الوليد بن يزيد ، فرصة ذهبية نجح فيها العباسيون في تعبئة النفوس وتنظيم الصفوف ، للانقضاض على الدولة ‏.‏
10 - فلما آلت الخلافة لمروان بن محمد - آخر خلفاء بني أمية في المشرق لم يستطع أن يقر قواعد الدولة ، على الرغم من أنه ‏"‏ كان أشجع بني أمية وأقدرهم على تحمل الأخطار ‏"‏ ‏.‏‏.‏ فسقطت الدولة في عهده ، بعد فتنة واضطرابات دامت خمس سنوات ، وكان سقوطها في سنة 132هـ ‏.‏
وكانت دولة بني أمية دولة عربية تتعصب للعرب وللتقاليد العربية ، وللغة العربية ، ولم يستطع معظم خلفائها أن يرتفعوا على مستوى المساواة والعدل في الإسلام ‏.‏
لكن مع ذلك كان لهذه الدولة أياد طولى على المسلمين لعل من أهمها جهودها العظيمة في مجال الفتوحات الإسلامية ‏.‏
 فتوحات الدولة الأموية ‏:‏
اتسعت فتوحات الدولة الأموية اتساعا عظيما ، منذ عهد معاوية الذي لم تكد تستقر له الأوضاع حتى جهز الجيوش وأنشأ الأساطيل ، وأرسل قواده إلى أطراف الدولة لتثبيت دعائمها ، بعد أن حاول الفرس والروم استغلال فترة الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما ‏.‏
*وقد أخضعت هذه الجيوش ثورة فارسية هدفت إلى الامتناع عن دفع الجزية ‏.‏ ثم توغلت جيوشه شرقا ، فعبرت نهر جيحون ، وفتحت بخارى وسمرقند وترمذ ‏.‏
*ومن الجهة الرومانية ، كان الرومان قد أكثروا من الغارات على حدود الدولة الإسلامية في الناحية الشمالية الغربية ، فأعد معاوية لهم الجيوش ، وانتصر عليهم في مواقع كثيرة ‏.‏
وبأسطوله الذي بلغت عدته ‏(‏1700‏)‏ سفينة ، استولى على قبرص ورودس وغيرهما من جزر الروم - كما قام بالمحاولة الأولى لفتح القسطنطينية عاصمة الدولة الرومانية الشرقية سنة 48هـ ، فأرسل جيشا بإمرة ابنه يزيد ، وجعل تحت إمرته عددا من خيرة الصحابة كعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر وأبي أيوب الأنصاري ، لكن المحاولة لم تنجح ‏!‏‏!‏
ومن الشمال الإفريقي ‏(‏ تونس والجزائر والمغرب الأقصى ‏)‏ امتد الفتح الإسلامي، فأرسل ‏(‏معاوية ‏)‏ عقبة بن ابن نافع سنة ‏(‏50هـ‏)‏ في عشرة آلاف مقاتل ، لتثبيت فتحها، وقد عمل عقبة على نشر الإسلام بين البربر ثم بنى مدينة القيروان ، وفي عهد ابنه الخليفة ‏(‏يزيد‏)‏ وصل عقبة في اكتساحه للشمال الإفريقي حتى المحيط الأطلسي غربا ، وقال هناك كلمته المأثورة ‏"‏ والله لولا هذا البحر لمضيت في سبيل الله مجاهدا ‏"‏ ‏.‏
وفي الشرق اتجهت جيوش عبد الملك بن مروان - الخليفة الأموي الخامس - إلى التوسع في بلاد ما وراء النهر ، وكانت القيادة في هذا الركن للمهلب بن أبي صفرة وليزيد بن عبد الملك ‏.‏ وكان من أبرز الفتوحات في عهد الوليد بن عبد الملك فتح بلخ ، والصفد ، ومرو ، وبخارى ، وسمرقند ، وذلك كله على يدي قتيبة بن مسلم ‏.‏
أما محمد بن القاسم الثقفي فقد فتح السند ‏(‏ باكستان ‏)‏ ‏.‏ وفتح مسلمة بن عبد الملك فتوحات كثيرة في آسيا الصغرى ، منها فتحه لحصن طوالة وحصن عمورية ، وهرقلة ، وسبيطة ، وقمونية ، وطرسوس ‏.‏‏.‏ كما حاصر القسطنطينية أيام سليمان بن عبد الملك ‏.‏
وفي أوربا فتح موسى بن نصير الأندلس ، وبقيت في حوزة المسلمين ثمانية قرون ‏(‏ 92-898 ‏.‏‏.‏ هـ ‏)‏ وكان جزاؤه من بني أمية جزاء سنمار ‏!‏‏!‏
وقد حاول عنبسة بن سحيم الكلبي غزو جنوب فرنسا وفتح سبتماية ، وبرغونية ، وليون - ونجح المسلمون في ذلك نجاحا مؤقتا ، حتى انتهت هذه المحاولات بعيد موقعة بلاط الشهداء التي قادها عبد الرحمن الغافقي - بقليل ‏.‏ ولم يكن لهذه الفتوحات صدى حقيقي ، لأنها كانت أشبه بحملات جهادية فردية ‏.‏
 ولماذا سقط هؤلاء العظماء ‏؟‏
كان معاوية رضي الله عنه - بلا ريب - أحد دهاة العرب القلائل ، وكان رجل دولة وخبير سياسة بمعنى الكلمة ‏.‏‏.‏ بيد أنه كانت هناك حقيقة حضارية ينبغي عليه إدراكها وهي ‏:‏ أن الحضارة حين ينفصل جسدها عن دماغها لا يمكن أن تكون قابلة للبقاء ‏.‏‏.‏ حين يحدث انشقاق بين روح الأمة وجهاز عملها المادي تحدث الآلية القاتلة وتسير القافلة بلا روح ‏.‏‏.‏ تماما كما يسير الذي قطع رأسه من جسده‏.‏‏.‏ إنه لا بد من أن يسقط بعد خطوات ‏!‏‏!‏
ومنذ قامت الدولة الأموية ، واعتمد فيها نظام وراثة الخلافة كرها عن الأمة ‏.‏‏.‏
منذ هذا الحدث وثمة انفصال بين جسد الأمة وروحها ذاقت منه الأمة الإسلامية مر الأهوال ‏.‏‏.‏وكان أحد الأسباب ، بل أهم  الأسباب في سقوط الدولة الأموية ‏.‏
لقد تشكلت طبقة تعطي نفسها امتيازا جنسيا غريب الشكل ‏.‏‏.‏ فهي لمجرد أنها من البيت الأموي ، حتى ولو افتقدت كل صلاحيات الوجود والحكم بعد ذلك ، لا بد أن تقف في الصف الأول ‏.‏‏.‏ وأن تقود وتحكم ‏.‏‏.‏ ‏!‏‏!‏ والأدهى من ذلك أن هذه الدولة اعتمدت العنصرية العربية المستعلية حقا تتكئ عليه في سيادتها ‏.‏‏.‏ وظلمها ‏!‏‏!‏
وهذه الظاهرة ‏.‏‏.‏ تلد أمراضا حضارية خبيثة كلها شؤم وبلاء ‏.‏‏.‏ فإن هذه الطبقة سرعان ما يحاول كل واحد منها الحصول على حق ‏.‏‏.‏ أكثر شرعية جنسية ‏.‏‏.‏ لكي يصل إلى الحكم ، وبالتالي يلجأ إلى الدس والخديعة والقتل والاغتيال ويسود الطبقة الحاكمة جو من الصراع الداخلي يمنعها عن أن تؤدي للأمة أي شيء ، ويكون كل هم الحاكمين أن يحافظوا على الموقع الذي يقفون فيه ‏.‏‏.‏ هكذا كان الأمر بين الأمويين ولا سيما في الأيام الأخيرة من عمرهم ‏.‏‏.‏ أيام الوليد بن يزيد، ومروان بن محمد ‏.‏
ومن الأمراض الخطيرة التي تلدها ظاهرة الانفصام المشئومة استعانة هؤلاء الحاكمين بطبقة تتولى هي في الحقيقة الأمر ، وتستبد بالأمة ، وحين تستغيث الأمة لا تجد من يغيثها ، إذ يكون الحكام في واد آخر بعيد عنها ، بل إن هؤلاء الحكام يعتقدون أنهم بوجودهم في مراكز السلطة مدينون لهؤلاء العمال أو الولاة الغاشمين الظالمين ‏.‏
وقد زخرت صفحات التاريخ بعديد من هؤلاء الجبابرة الذين أساءوا إلى المسلمين والإسلام إساءات بالغة كالحجاج بن يوسف الثقفي في المشرق ، والوالي عبد الله ابن الحبحاب في المغرب ‏.‏
ولقد أساءت هذه الطبقة المصطنعة العازلة إلى تاريخ الأمويين نفسه أيما إساءة ، وزينت للخلفاء الأمويين كل جور ، وعملت في المسلمين عمل كسرى وقيصر في شعبيهما ‏.‏‏.‏ وكانت - يعلم الله - بلاء على المسلمين أي بلاء ‏!‏‏!‏ وقد كانت سببا في نجاح الخوارج ، وفي إشعال ثورات بربرية ، في ساحة الأندلس والمغرب ‏.‏
وبتأثير الطغيان الذي ساس به الولاة جماهير المسلمين ، انصرف الناس إلى أمورهم ، تاركين أمور الدولة في يد الفئة الحاكمة بل انصرفوا إلى الاندماج في كل حركات الخروج على الدولة ‏.‏‏.‏ وقد تمخض كل ذلك عن ميلاد تنظيم من أدق التنظيمات في تاريخ الانقلابات السياسية ، وهو التنظيم العباسي الذي رفع الراية العلوية ‏(‏ الرضا من آل البيت ‏)‏ أيام سريته ‏.‏‏.‏ إلى أن وصل إلى الحكم ‏.‏
ولم يك هذا التنظيم لينجح ويجد المناخ والعناصر الصالحة إلا نتيجة سياسة الولاة الغريبة عن روح الإسلام ‏.‏
وقد اختلف المؤرخون في سقوط هذه الدولة العظيمة ‏.‏‏.‏ دولة الفتوحات ‏.‏‏.‏ وقد رأى بعضهم ، وهم محقون ، أنه النزاع بين المضرية واليمانية ، الذي ابتدأ منذ أيام مؤسس الدولة الأموية معاوية ، قد أدى إلى ضياع بني أمية ‏.‏
ويرى بعضهم أن مصرع الحسين بن علي في كربلاء كان الداء القاتل الذي تفاقم حتى قضى عليها ‏.‏
ورأى آخرون أن العامل الهام الذي أدى إلى سقوط بني أمية هو تعصب الأمويين للعرب، مما أدى إلى خروج الموالي على الدولة الأموية وهم غير العرب الذين دخلوا في الإسلام عقب الفتح العربي في فارس ومصر والمغرب ‏.‏
وما لبث هؤلاء أن أصبحوا أعداء للعرب من بني أمية ولا شك أن سلوك الوليد ابن يزيد الذي أدى إلى مصرعه كان من أبرز الأسباب المباشرة في فساد الأحوال‏.‏
كما أن الاستبداد الفردي عامل من عوامل سقوط الدولة قال به كثيرون ‏.‏
وقد تكون كل هذه الأسباب صحيحة ، بل قد تكون متداخلة ، لكننا نميل إلى سبب جوهري نراه أكبر الأسباب وأبرزها ، وهو العنصرية الأموية التي جعلتهم يرفعون العرب على حساب غيرهم، ويثيرون الأحقاد في بقية الطوائف المسلمة‏!‏‏!‏
وتبقى عبرة التاريخ الأخيرة في سقوط الدولة الأموية ‏.‏ فإن نصر بن سيار ‏(‏ والي خراسان ‏)‏ كان على عهد مروان بن محمد آخر خلفاء الأمويين ‏.‏‏.‏ وكان نصر هذا ‏.‏‏.‏ كما كان مروان ‏.‏‏.‏ كان كلاهما من خيرة من أنجبت الدولة الأموية‏.‏‏.‏ هذا في الولاة ، وذلك في الخلفاء ‏.‏
لكنهما ظهرا بعد أن اتسعت خروق الدولة على أي راقع ، وكان رصيد الدولة من الفساد والتحلل والظلم والضعف ، قد أصبح أكبر وأضخم من طاقة أي إنسان ‏.‏
لقد كانت حركة التاريخ التي هي من سنة الله قد قالت في الدولة الأموية كلمتها ‏.‏‏.‏ وقد حاول ‏"‏ نصر ‏"‏ أن يستعمل ذكاءه في إنقاذ الدولة ، إذ كان يستشف ببصيرته الوقادة أن ثمة أمورا تبينت للدولة ، وأن دولة الأمويين على وشك الرحيل ، وكم كاتب الخليفة الأموي الأخير ‏"‏ مروان ‏"‏ في ذلك ‏.‏‏.‏ ولكن دون جدوى ‏.‏‏.‏ لقد اتسع الخرق ووجب أن ينهار البناء ‏!‏‏!‏
وكان مروان ‏.‏‏.‏ مشغولا بسداد ‏"‏ شيكات ‏"‏ سابقيه من الديون ‏.‏‏.‏ في بنك الضياع ‏.‏‏.‏ فلم يمكنه أن يستجيب لا ‏"‏ لنصر ‏"‏ ولا لضميره الذي كان يحس بقرب الكارثة ‏.‏‏.‏ هكذا تفعل الدول بنفسها ‏.‏‏.‏ نتيجة ظلمها ‏.‏ وتراكم هذا الظلم ‏.‏
وعندما سقطت الدولة الأموية سنة 132هـ ، ولقي مروان المسكين مصرعه في حلوان بمصر ‏.‏‏.‏ كان كتاب التاريخ يطوي إحدى صفحاته ‏.‏‏.‏ يطويها بعنف لأن أبطالها أرادوا لأنفسهم هذا ‏.‏‏.‏‏.‏ حين راحوا ينفصلون عن ضمير الأمة ووجدانها ، ويعزلون أنفسهم عن شعوبهم - بطبقة من العمال الظالمين الغاشمين وبعنصرية عربية قومية ظالمة ‏.‏‏.‏ لقد فتحوا كثيرا من الأراضي ، لكنهم فشلوا في أن يفتحوا القلوب ‏.‏‏.‏‏.‏ والعقول ‏!‏‏!‏
 سقوط الدولة الطولونية في مصر
الانتصار في معركة ‏.‏‏.‏ والحصول على مكسب وقتي ‏.‏‏.‏‏.‏ والوصول إلى السلطة‏.‏‏.‏ هذه كلها ليست هي قضية التاريخ ‏.‏‏.‏ ولا معركة التقدم البشري ‏.‏‏.‏ بل هي عموما ليست من عوامل تحريك التاريخ إلى الأمام أو الخلف على نحو واضح وضخم‏.‏‏.‏ إن الانتصار في معركة ‏.‏‏.‏ قد لا يعني الهزيمة الحقيقية للأعداء ، فحين لا تتوافر العوامل الحقيقية للنصر ‏.‏‏.‏ يصبح أي نصر مرحلي عملية تضليل ، واستمرارا للسير الخطأ ، وتماديا في طريق الوصول إلى الهزيمة الحقيقية ‏.‏‏.‏ هكذا سار التاريخ في مراحل كثيرة من تطوراته ‏.‏‏.‏ كان النصر بداية الهزيمة ، وكانت الهزيمة بداية للنصر ‏!‏
وحين يصل إنسان ما إلى الحكم ‏.‏‏.‏ دون أن يكون معدا إعدادا حقيقيا للقيادة ، ودون أن يكون في مستوى أمته ‏.‏‏.‏ يكون وصوله على هذا النحو هو المسمار الأخير الذي يدق في نعش حياته وحياة الممثل لهم ‏.‏‏.‏ ‏!‏
والتاريخ في دوراته غريب وهو يعلمنا أنه لا توجد قاعدة ثابتة للتحول ترتكز على أسس متينة ، اللهم إلا قاعدة التغيير من الداخل المرتكزة على عقيدة لها جذورها في أعماق النفس ، ولها انسجامها مع حركة الكون ولها صلاحياتها في البقاء والانتشار والخلود ‏!‏
وعندما أعلن ‏"‏ أحمد بن طولون ‏"‏ مؤسس الدولة الطولونية في مصر انفصاله عن الدولة العباسية بعد سنة 254هـ ، كان ينقصه الوعي بحركة التاريخ والشروط الضرورية للتغيير ، وكان بإنشائه هذه الدولة ليس أكثر من ‏"‏ انقلابي ‏"‏ سيطر على الحكم في ظل أوضاع معينة مرت بها الدولة العباسية ، سمحت له ولأمثاله بإظهار مطامحهم في مزيد من السلطة والشهرة والرغبة الجامحة في السيطرة ‏.‏ لم يحاول هذا الرجل - ما دام قد وصل إلى مستوى الثقة لدى الجهاز العباسي الحاكم - أن يتقدم بإصلاحاته ، وأن يبحث عن السبل المؤدية لحماية الدولة الإسلامية الجامعة ، وإنما راح في إغراق في عبودية الذات يبحث عن استغلال الظروف لصالحه ‏.‏
ومنذ استقر في مصر سنة 254هـ وهو يحاول جمع كل مقاليد السلطة في يده ، فيتخذ من الإجراءات ما يجعله الرجل الوحيد في مصر ، وليس الرجل التابع لدولة إسلامية كبرى تستطيع عزله وتولية غيره ‏.‏ وقد عزل - في سبيل ذلك - عامل الخراج الذي عينه العباسيون على مصر - وتمكن من التحكم في الشئون المالية إلى جانب الشئون الإدارية والعسكرية ‏.‏
ودخل أحمد بن طولون في صراع مع الدولة العباسية الجامعة وانتصر على أخي الخليفة أبي أحمد ‏"‏ الموفق ‏"‏ واتخذ من الإجراءات الثورية ما يكفل له الوقوف على قدميه لصد أي هجوم عباسي ‏.‏
لكنه في الحقيقة لم يكن في حاجة إلى هجوم ‏.‏‏.‏ فنشأته على النحو السابق تحمل في أحشائها النهاية الطبيعية العاجلة ‏.‏ ورأت الخلافة من الحكمة أن تستغله ‏.‏ بدل أن تدخل معه في صراع ، وكلفته بمهام جديدة ، منها حماية الثغور الشامية ‏.‏‏.‏ ومات أحمد بن طولون تاركا دولة تقف كلها على أقدامه وحده وليست لها أقدام أخرى ‏.‏‏.‏ من عناصر الحياة التاريخية والحضارية ولذا فإنها بموته وقعت على الأرض‏.‏‏.‏ وعلى الرغم من كل ما أبداه ‏"‏ خمارويه ‏"‏ ابنه من اتباع لسياسة أبيه ، ومن تمسك بمعالم استقلال وقوة دولته المستقلة ‏.‏‏.‏ إلا أنه لم يعد أن يكون مرحلة عبرها التاريخ ليدخل بالدولة - فورا - في مرحلة الأفول والفناء ‏.‏
فبعد خمارويه انغمس الأمراء الطولونيون في لهوهم ، وتفشت ظاهرة حب السلطة والاستقلال لدى عمالهم في الأقاليم ‏.‏ وانقلب الثوريون على أنفسهم ، أو بالتعبير الدارج ‏.‏‏.‏ بدأت طلائع الثورة يأكل بعضها البعض ‏.‏ وقد ولي الأمر بعد خمارويه ثلاثة من آل طولون لم يزد حكمهم على عشر سنوات ، ولم تستفد البلاد المصرية أو الشامية منهم شيئا غير الفوضى والتنافس بين الطامعين في السلطة أو الفساد الذي نجم عن الترف ، وعن الاستبداد وغيبة الأمة عن الرقابة أو الحكم ‏.‏‏.‏ وفي هذه الحال ‏.‏‏.‏ لم يكن الأمر متعبا بالنسبة للدولة العباسية ‏.‏‏.‏ فتقدمت جيوشها لاسترداد مصر من خامس الولاة الطولونيين وهو ‏"‏ شيبان ‏"‏ الذي كانت الفوضى قد وصلت في عهده قمتها وأعلى معدلات خطورتها ، وشهدت سنة 292 هـ دخول هذه الجيوش إلى القطائع في القاهرة ‏.‏‏.‏ ومن فوق المنبر أعلن إزالة الدولة الطولونية التي لم تستطع أن تحكم أكثر من أربعين سنة عاشتها في صراع خارجي وعاشت معظمها في صراع داخلي ، مع شعب لم يهضم حركتها التي لم يكن لها المبرر الحضاري الهام لإحداث التغيير ‏.‏
وعادت مصر إلى حظيرة الدولة العباسية ‏.‏‏.‏ وعلى امتداد تاريخنا سجلت صفحاته عشرات من الانقلابات وسجلت أسماء مئات الانقلابيين ‏.‏‏.‏ ولكنهم - جميعا وبلا استثناء - لم يقدموا ما يتوازى مع أحجام الخسائر التي كبدوها لأمتهم ‏.‏‏.‏ لأن الانقلاب ليس الوسيلة التاريخية المهيئة للتغيير ، إذ هو موجة انفعالية سرعان ما تنحسر محدثة رد فعل انحساري عنيف ‏.‏‏.‏ ودائما ‏.‏‏.‏‏.‏ دائما أثبتت كل تقلبات تاريخنا كما أثبتت كل تطورات الحضارة ‏"‏ أن الانقلاب يدفع إلى انقلاب ‏.‏‏.‏ وأن حركة التاريخ لا تندفع بالعنف والانفعال ‏"‏ ‏!‏‏!‏
 الصفاريون وقصة سقوطهم
تاريخنا الإسلامي العظيم كتاب كامل من التكاملية التاريخية ، يضم بين صفحاته كل صور التقدم والتأخر ‏.‏
وهو معلم عظيم ‏.‏‏.‏ اشتملت تجاربه على نوعيات من كل تجارب التاريخ البشري، وليس ذلك لأن القرآن العظيم قد حكى على نحو تركيبي كل صور التقلب والحركة والهبوط والارتقاء التي مر بها الموكب البشري ، والتي تغني التطور التاريخي الإسلامي وتكفل له الاندفاعة العاقلة ‏.‏‏.‏ ليس مرد الأمر إلى ذلك وحسب ‏.‏‏.‏ بل لأن كتاب التاريخ الإسلامي نفسه قد شاء الله له أن يكون من التكاملية والحبكة والتنوع بحيث يصلح كمرجع تال للقرآن والسنة يرجع المسلمون إليه ويتعلمون منه ، ويتلقون تلقي التلميذ من الأستاذ ‏.‏‏.‏
إننا لا ندعو إلى رفض تأمل الموكب البشري المتحرك الذي يتحرك إلى جانبنا ومن حولنا ‏.‏‏.‏ أبدا ‏.‏‏.‏ فكل ما هنالك أننا لا بد أن ندرس أنفسنا قبل أن ندرس الآخرين ‏.‏
والعجيب في أمر الدولة العباسية التي عاشت أكثر من خمسة قرون ‏.‏‏.‏ أستاذا وقائدا زمنيا وروحيا - مع اختلاف في الدرجة - العجيب أن هذه الدولة قد اشتملت على باب كامل من أبواب تاريخنا تكاملت له البداية ‏.‏‏.‏ والعقدة ‏.‏‏.‏ والنهاية‏.‏
وكما تعرضت هذه الدولة لعلل الانفصال عنها بوضوح منذ منتصف القرن الثالث الهجري ببروز الدولة الطولونية في مصر ، فإنها كانت تتعرض على امتداد النصف الثاني من القرن الثالث المذكور لهذه العلل على امتداد أرضها كلها ‏.‏‏.‏ كانت حركات الانفصال التي كانت لا تزال تخطب في المغرب باسم الخليفة العباسي ‏"‏ حركات الأغالبة والرساميين والأدارسة ‏"‏ بدلا من هذا أصبح الفاطميون حركة عصيان وتمرد علني ‏.‏‏.‏ بل وخروج على الأيديولوجية العباسية ‏.‏
ومن الغريب أن حركة خروج أخرى تحمل نفس العداء السياسي والعسكري للخليفة العباسي ، وإن كانت لم تخرج أيديولوجيا ، كانت قد برزت في خراسان وتمخضت عن صراع عسكري اتبعه انفصال عن الدولة في سنة 254هـ وهي السنة نفسها التي برزت فيها الدولة الطولونية وسميت حركة الانفصال في خراسان هذه باسم ‏"‏ الدولة الصفارية ‏"‏ ‏!‏‏!‏
وكان لخراسان - كما هو معروف - وضع خاص في الدولة إذ كان هؤلاء الخراسانيون يشعرون بأنهم أصحاب فضل على الدولة العباسية ، وبأن سيدهم ‏"‏ أبا مسلم الخراساني ‏"‏ هو المؤسس الأكبر في رأيهم للدولة العباسية ، لكنهم - وهذا رأيهم كذلك - جوزوا جزاء ‏"‏ سنمار ‏"‏ حين قتل أبو جعفر المنصور الثاني ثاني الخلفاء العباسيين أبا مسلم هذا ‏.‏
وقد تجاوزت الخلافة العباسية عن خراسان بعض الشيء بدافع من الوفاء والمجاملة ، وتركت ‏"‏ لطاهر بن الحسين ‏"‏ الذي قدم للدولة خدمات جليلة فرصة التحكم في خرسان ‏.‏‏.‏ له ولأبنائه من بعده في إطار الخلافة الجامعة والسمع والطاعة لدولة الخلافة عاصمة وخليفة ‏.‏‏.‏ حربا وسلما ‏.‏
لكن منتصف القرن الثالث شهد بروز جماعة من المجاهدين الحريصين على بقاء هيبة الخلافة ‏.‏ تمكن ‏"‏ يعقوب بن الليث الصفري ‏"‏ من الاتصال بها ‏.‏‏.‏ والسيطرة عليها ‏.‏‏.‏ وتحويلها إلى جماعة خادمة له ‏.‏‏.‏ نجح بها في تأسيس ‏"‏ الدولة الصفارية‏"‏‏.‏
وقد استطاع يعقوب أن يجتذب إلى تأييده عددا من المتطوعين الجدد ، فعظم جيشه، واستطاع أن يحدث القلق لدى دولة الخلافة ، وبالقلق وإظهار تعاونه مع الدولة ، وحروبه تظاهرا لمصلحتها ، ثم باصطدامه بها ‏.‏‏.‏ اصطداما فاشلا كاد
يلقى حتفه فيه ‏.‏‏.‏ بكل هذا سكتت الخلافة عن هذه الحركات التي ولدت لتموت ، ولم يلبث يعقوب أن مات متأثرا بجراحه سنة 256هـ في سابور ‏.‏
وخلفه أخوه عمرو بن الليث ‏.‏‏.‏ وأقرت الخلافة ولايته على خراسان ولواحقها كالسند وسجستان وكرمان وفارس وأصبهان ‏.‏‏.‏ فأظهر عمرو الطاعة الكاملة للخلافة ، لكنه - أمام كرم الخلافة - قد زاد في أطماعه ، ودخل في معارك مع السامانيين في بلاد ما وراء النهر ، واستطاع السامانيون بقيادة إسماعيل بن نصر الساماني أسره في إحدى المعارك ، وسيروه مكبلا إلى الخليفة العباسي المعتضد ‏.‏‏.‏وأحضر إلى مجلس الخليفة المعتضد محمولا على جمل ذي سنامين ، وسجن حتى مات في سجنه سنة 287هـ ‏.‏
واضطرب أمر الصفاريين لمدة ثلاثة أعوام بعد ذلك ، وسقطوا كما تسقط كل حركة انفعالية ترتكز على طموح شخصي ، وتفتقد الوعي بحركة التاريخ وبأيديولوجية قتالية واضحة تستأهل الموت في سبيلها ‏.‏
ودائما يعلمنا التاريخ الإسلامي العظيم من تجربة الانقلاب ، الذي سماه المؤرخون غير المحددين بعمق لرصيد المصطلحات ‏"‏ الدولة الصفارية ‏"‏ ؛ يعلمنا التاريخ الإسلامي العظيم أن ‏"‏ الاندفاع غير الموضوعي وغير المتناسق مع روح التطور لا مصير له إلا الموت السريع ‏"‏ ‏!‏‏!‏
 الإخشيديون على خطى الطولونيين يسقطون ‏!‏‏!‏
في قوانين الحضارة ‏:‏ أن المادة والروح لا تفنيان فناء مطلقا ‏.‏‏.‏ وأن بذور الخير والشر لا يمكن أن تموت موتا أبديا ‏.‏‏.‏ وأن الخير أو الشر يتحولان إلى مادة خام ‏.‏‏.‏‏.‏ لميلاد جديد سواء كان هذا الميلاد انبعاثة خير أو انبثاقة شر ‏.‏
وبوسع علماء الحضارة أن يقدموا نماذج عديدة تبين بوضوح أن ‏"‏ الخمر العتيقة ‏"‏ لا يمكن أن تذوب دون أن تدخل في صنع مآدب حضارية جديدة ‏.‏‏.‏ تماما كالجسم الميت الذي يدخل في أجسام أخرى حية يمنحها من طاقته الذاهبة طاقات جديدة مندفعة للحياة والإبداع ، وكما يأكل الإنسان لحوم الدواجن والحيوانات الأخرى الحلال والأسماك ‏.‏‏.‏ ثم يتحول هو يوما إلى طعام يسهم في إحياء حيوانات أخرى‏.‏‏.‏ أو في منح الأرض بعض المواد الكيماوية والحضارات تمر بنفس الطريق الدائري الخالد ‏.‏‏.‏ فأثينا برقيها الفلسفي والأدبي ‏.‏‏.‏ تتحول إلى خميرة حضارة لروما ‏.‏ والحضارة الأوربية تقوم على خميرة الحضارة الإسلامية وبقايا الحضارات الرومانية ‏.‏
وعندما زرع أحمد بن طولون منشئ الدولة الطولونية أولى بذور الحركات الانفصالية في مصر عن الخلافة العباسية الجامعة والأم ، بدأت بزرعه لهذه البذرة الخبيثة بذور الانفصام تدب في نفوس قوى كثيرة جياشة بالفوضى ‏.‏ زاخرة بالطموح الشخصي، ناقمة على قيادة العباسيين ‏.‏‏.‏ الجامعة ‏.‏ متأثرة بعوامل قومية من تلك العوامل التي تدمر روح الحضارة وتبشر بمستقبل ضائع ميت ‏.‏‏.‏ لقد كانت دولة ابن طولون مثالا لكثير من الدويلات التي شذت على الخلافة ، وشيدت أبنيتها المتداعية على أنقاض الخلافة ، ولم يعد لكثير منها علاقة بالخلافة أكثر من الاعتراف بسلطة الخليفة الاسمية ‏.‏
وبعد السقوط المتوقع لهذه الدولة عادت مصر وسورية إلى حكم العباسيين ، بيد أن بذرة الانفصال - كما ذكرنا - كانت قد زرعت في نفوس قوى كثيرة ، جائشة بالفوضى فوارة بالنوازع القومية الوثنية ‏.‏‏.‏ فما كادت دولة ابن طولون تموت حتى حلت محلها بعد برهة زمنية قصيرة - في مصر - دولة الإخشيديين التي أسسها ‏"‏ محمد بن طغج ‏"‏ والتي عاشت آيلة للسقوط بين سنوات ‏(‏ 323 - 358هـ ‏)‏ ‏(‏ 935 - 969م ‏)‏ ‏.‏
وكانت بداية الدولة نظيرة لنفس البداية التي انطلقت منها الدولة الطولونية ، فمحمد ابن طغج وكل إليه من قبل الخلافة العباسية أمر مصر لتنظيم أحوالها ‏.‏‏.‏ فنظم أحوالها لنفسه واستقل بالأمر ، واستولى على سورية وفلسطين وضم مكة والمدينة إلى دولته ‏.‏
وبموت ابن طغج حكم بعده ابنان له صغيران لم يكن لهما من الحكم إلا اسمه ‏.‏‏.‏ وكانت مقاليد الأمور في الحقيقة منوطة بيد عبد خصي حبشي يدعى ‏"‏ كافور ‏"‏ ‏"‏ أبا المسك ‏"‏ - كان ابن طغج الذي لقب بالإخشيد - قد اشتراه من تاجر زيت بثمانية دنانير ‏.‏
وقد استقل هذا العبد الحبشي بإدارة مصر ‏.‏‏.‏ ‏(‏ وكانت له مع شاعر العصر أبي الطيب المتنبي قصص مشهورة‏)‏ كما أن هذا العبد الخصي نافس دولة الحمدانيين التي ظهرت في شمال سورية ‏.‏
وعبر خمسة حكام ضعاف باستثناء أولهم محمد بن طغج - مشت الدولة مسرعة في طريقها إلى الموت المحقق ‏.‏‏.‏ فلم يكن الحاكمان التاليان لمؤسسي الدولة إلا تابعين لكافور - كما ذكرنا - وبموت كافور وتولي ‏(‏ أبي الفوارس أحمد ‏)‏ سقطت الدولة سقوطا مروعا على يد جوهر الصقلي قائد المعز لدين الله الفاطمي سنة 358هـ ‏.‏
ولم يقدر لهذه الدولة أن تخلف شيئا يذكر من المآثر العامة ، كما أن الحياة الأدبية والفنية لم تكن ذات بال فيها ، ولم يظهر كلمعة الشمس المتوهجة إلا ذلك الضيف الباحث عن فضلة من كأس الحكم ‏.‏‏.‏ يدعم بها غروره الشعري وتفوقه الجدير بالتقدير في ميدان الكلمة المسيطرة الآمرة ‏!‏‏!‏ وعندما ضن عليه كافور بفضلة الكأس هرب من مصر دون ‏"‏ تأشيرة خروج ‏"‏ ولقي حتفه جزاء له ‏.‏‏.‏ بعد أن ترك حقده على السلطة ممثلا في أشهر أبياته ‏:‏
لا تشتر العبد إلا والعصا معه ** إن العبيد لأنجاس مناكيد
مريدا بذلك أشهر حكام الدولة الإخشيدية ‏"‏ كافور ‏"‏ ‏.‏
ولو لم يصل جوهر إلى حدود مصر لسقطت الدولة الإخشيدية بفعل عامل آخر ، فعندما لا يكون هناك مبرر للوجود ‏.‏‏.‏ لا يكون ثمة مبرر للبقاء ‏.‏‏.‏ ولا تفعل القوى الخارجية التي تسيطر على الأمم والشعوب سوى أن تتقدم في فراغ دون أن تصطدم بجدران حضارية أو صخور قوية راسخة بالعقيدة ‏"‏ بمبرر الوجود ‏.‏‏.‏‏.‏ ومؤهل البقاء ‏"‏ ‏!‏
 سقوط السامانيين في فارس
كما لا تلد الطفرات غير الطبيعية إلا طفرات مضادة اندفاعية - هكذا تحولت أرض خراسان - منذ أن ابتدع فيها سنة الانفصال عن العباسيين بنو طاهر ، ولئن كان بنو طاهر قد أفلتوا من العقاب المضاد ، لأنهم لم يكونوا حركة ثورية عنيفة ، وإنما كانت انفصالا هادئا في حدود السلطة الرسمية المشروعة ، سلطة الخلافة العباسية الأم ‏.‏‏.‏ لئن كان هذا قد تم لهم ‏.‏‏.‏ فإن الأمور قد استفحلت من بعدهم ‏.‏‏.‏ وأصبح الشذوذ هو القاعدة ‏.‏‏.‏ وانقلبت الأرض الخراسانية إلى أرض للثورات المذهبية والجنسية ‏.‏‏.‏ ولعل هذا كان من أكبر عوامل القضاء على الدور التاريخي الذي كان يمكن أن يلعبه الخراساني في صنع الحضارة الإسلامية الإنسانية ‏.‏
فحيثما حل العنف واللامشروعية ‏.‏‏.‏ وانساقت الجماهير دون تعقل خلف رايات متعددة ، وخلف كلمات مبهمة ‏.‏‏.‏ فقدت بالتالي قدرتها على الرؤية ‏.‏‏.‏ وقدرتها على العطاء الحضاري ‏.‏ أصبحت لعبة في يد كل ناعق سواء كان ذا صوت طبيعي أو مصطنع ‏.‏
وهكذا شرب الطاهريون الانفصاليون من نفس الكأس التي أذاقوها للعباسيين ، فقام الصفاريون عليهم ‏.‏ واستولوا على حكم خراسان سنة 261هـ بقيادة يعقوب ابن الليث الصفاري ‏.‏
وكان بنو سامان الذين يرجع نسبهم إلى سامان أحد نبلاء ‏"‏ بلخ ‏"‏ قد نشأوا عمالا مسلمين لبني طاهر‏.‏ ثم لم يلبثوا أن استأثروا بفارس وما وراء النهر من 874 هـ إلى سنة 999م وكان ذلك على أشلاء الانقلابيين الانفصاليين ‏:‏ الطاهريين والصفاريين ‏.‏‏.‏ وكان مؤسس دولتهم الأول هو نصر بن أحمد ، إلا أن موطد الدولة هو إسماعيل الذي قدر له أن يهزم يعقوب بن الليث الزعيم الصفاري وأن يصيبه بجروح قاتلة ‏.‏
وفي عهد ملكهم نصر الثاني بن أحمد ‏(‏ 913 - 943 ‏)‏ وهو الرابع من ملوكهم ، وسعوا ملكهم إلى أعظم حدود وصلوا إليها ، فاستولوا على سجستان وكرمان وجرجان وما وراء النهر وخراسان وتمتعوا بسلطة مستقلة ، وإن كانوا لم يقطعوا الصلة الرسمية الإسلامية بالخليفة العباسي في بغداد ‏.‏
وقد قدمت هذه الدولة بعض مظاهر التقدم العلمي والأدبي سواء من ناحية اللغة أو الأدب شعرا ونثرا ‏.‏‏.‏ وكانت النهضة الفارسية فيها أبرز من النهضة العربية من ناحية فكرها وطابعها العام باعتبارها دولة فارسية ، ففيها ظهر الرازي الشهير ، وقدم كتابه المنصوري في الطب إلى أحد ملوكها ‏.‏‏.‏ وكان ابن سينا أحد المترددين على مكتبات بخارى عامة الدولة ‏.‏‏.‏‏.‏ ووضع الفردوسي أشعاره بالفارسية لأمرائها ‏.‏
على أن أسلوب الطفرات غير الطبيعية التي لا بد لها أن تلد طفرات مضادة انفعالية ، لم يلبث أن ظهر كقانون حضاري لا بد له من أن يؤدي دوره مع الدولة السامانية ، كما أداه مع الطاهريين ومع الصفاريين ، ومع الطولونيين والإخشيد ، فلم تنج الدولة بالتالي من عناصر التهديم والفوضى التي قضت على ما سواها من الحركات الانقلابية في ذلك العصر ‏.‏
وبالإضافة إلى المشاكل الخارجية التي كانت تسببها الخلافة للدولة كلما أتيح لها ذلك ، وفضلا عن سرعة توالي الأمراء على الحكم بتأثير الصراع الداخلي بين الأسرة الحاكمة ، وبتأثير مطامع الكبراء العسكريين الذي يظنون أنفسهم أولى بالحكم لأنه لا يوجد من يفوقهم في حكم البلاد ، فكلهم أصحاب حق في مغانم الانقلاب الانفصالي ‏.‏
بالإضافة إلى هذا وذاك ‏.‏‏.‏ ظهر خطر جديد يهدد كيان السامانيين ويؤذن بأفول شمسهم ‏.‏‏.‏ ولقد بدا أنهم يكادون يشربون من نفس ما أذاقوه للخلافة ‏.‏‏.‏ تماما كما شرب غيرهم من الانفصاليين ‏.‏
وقد ظهرت القبائل التركية البدوية ‏.‏‏.‏ وارتفع نجمها في الدولة ، وسيطرت على الشئون الداخلية للدولة ، وتحولت القوة تدريجيا من أيدي السامانيين إلى أيدي الأتراك الموالي ‏.‏‏.‏ وحتى قصورهم كان الأتراك يتمتعون بنفوذ كبير فيها ‏.‏
وقد نجح الغزنويون الذين كانوا من الموالي الأتراك في انتزاع الجنوب ، كما وقعت المنطقة الشمالية من نهر جيحون في أيدي خانات تركستان ‏"‏ الايلاق ‏"‏ الذي قدر لهم أن يستولوا على عاصمة السامانيين ‏"‏ بخارى ‏"‏ ثم لم يلبثوا - بعد تسع سنوات - أن التهموا الدولة السامانية ‏!‏‏!‏‏.‏
ولم تكن الدولة السامانية أكثر من حركة قومية غرقت في إحياء تراثها الخاص ، كما أنها لم تكن أكثر من حركة انقلابية قامت بأسلوب الطفرة غير الطبيعية وانتهت كذلك بأسلوب الطفرة غير الطبيعية سنة 308هـ بعد أن عاشت في ظل حماية ‏(‏ ضعف الخلافة ‏)‏ قرنا من الزمان ‏!‏‏!‏
 البويهيون الذين سطوا على الخلافة يسقطون ‏!‏‏!‏
بينما كانت الدولة العباسية تستجمع قواها وتلتقط أنفاسها بعد تخلصها من حركات الانشقاق في خراسان ومصر أخريات القرن الثالث للهجرة ، بينما هذا ‏.‏‏.‏ كانت الدولة تنتقل بسرعة لتدخل في طور جديد ذي معالم جديدة لم تشهدها من قبل ‏.‏‏.‏ وبدخولها هذا الطور شهدت انفصالا ضخما بين رأسها وجسدها ظل هو السمة العامة المسيطرة عليها لحين زوالها رسميا من محاضر التاريخ سنة 656هـ ‏.‏
إن الأمر لم يكن مجرد حركة انشقاق هذه المرة ، كما أنه لم يكن مجرد الاستئثار بحكم جزء من الدولة ، مع رفع راية الدولة ، كما أنه لم يكن ثورة انفعالية مذهبية أو سياسية ‏.‏‏.‏ لقد كان الأمر أعمق من ذلك بكثير ‏.‏‏.‏‏.‏ لقد كان أسلوبا جديدا في التعامل مع الدولة العباسية الجامعة ‏.‏‏.‏ لقد كان احتواء لها أو بتعبير آخر سيطرة عليها وفرض نوع من الوصاية على خليفتها ‏.‏‏.‏ ولأول مرة في تاريخ الدولة الإسلامية نرى بعض الخلفاء - على نحو واضح وعنيف - لعبة في يد بعض المغامرين ، ونرى بعض الخلفاء يعزلون ويولون دون أن يكون لهم من الأمر شيء ‏.‏‏.‏ يفعل باسمهم كل شيء ويخطب لهم على كل منبر وتعلن باسمهم الحروب التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل ‏.‏‏.‏ وليس هذا وحسب ‏.‏‏.‏ بل لأول مرة تصبح الخلافة عبثا يهرب منه الخلفاء ‏.‏‏.‏ وينأى عنه المحترمون لأنفسهم لأن مصير الخليفة غالبا الجر من قدميه أو الجوع الشديد ‏.‏‏.‏
وبدأ العالم الإسلامي يترنح منذ هذا الحدث الضخم الذي انفصل فيه رأس الأمة عن جسدها ‏.‏
وقد حمل كبر هذا الأمر الخطير ، الأتراك من الجند الذين كانوا يمرون آخر القرن الثالث فترة تمزق داخلي ، وانقلاب ضد الخلفاء الذين أتوا بهم ، بادئ الأمر لحمايتهم منذ أن انتشرت هذه السنة السيئة ‏.‏
فلما وصل ‏(‏ أحمد بن بويه ‏)‏ المؤسس الحقيقي للدولة البويهية ‏(‏ 334 - 447 ‏)‏ إلى بغداد، بعد أن كاتب الخليفة المستكفي ، ووافق الأخير على دخوله بغداد فدخلها في يسر ودون مشقة وفتحت له أبواب بغداد ، واستقبله الخليفة ‏(‏ المستكفي ‏)‏ ولقبه معز الدولة ‏.‏‏.‏ وفرح الناس به لينقذهم من الفوضى التي أحدثها الجند الأتراك في جهاز الدولة وبين الشعب ‏.‏
لما تم هذا الدخول وتحولت به الدولة إلى حماية البويهيين الرسمية ، بعد أن كان خضوعها للأتراك مجرد نشاز أو انقلاب في داخل السلطة يعتقد الناس أنه طارئ لا بد أن يزول ‏.‏
لما تم هذا كانت الخلفية التاريخية في ذهن البويهيين واضحة، وكان دخولهم بغداد بمثابة تقلد صريح لقيادة الخلافة ‏.‏‏.‏ وقيادة المسلمين ‏.‏‏.‏ وقد فهم الخلفاء أنفسهم هذا ‏.‏‏.‏‏.‏ فلم يحاولوا منافسة البويهيين في السلطة التنفيذية أو السياسية ‏.‏
بيد أن الأمر لم يقف عند هذه الحدود بالنسبة للبويهيين ، فلقد تمادوا في الأمر، وقد زعموا لأنفسهم نسبا ساسانيا فارسيا، وبما أنهم كانوا يعتنقون المذهب الشيعي الزيدي ‏.‏‏.‏ فقد حاولوا فرض المناخ الشيعي على الناس ، بل إن أحمد بن بويه المذكور حاول تغيير الخلافة العباسية إلى خلافة شيعية لولا نصيحة أصحابه له بأن يتجنب ذلك خشية العواقب ‏.‏
ولم يعد للخليفة في ظلهم حتى حق تعيين كتابه ووزرائه ، وقد منع وارد الخليفة عنه ، ولم يعد يصله إلا مرتب شهري استبدل به مرتب سنوي ‏.‏‏.‏ ثم اقتطع منه بعد ذلك بحجج واهية ، وقد بلغ إذلال بعض الخلفاء مبلغه ==المستكفي عن الخلافة وعزل الخليفة الطائع وعزل غيرهما ، وقد عزل المطيع لله نفسه بعد أن رأى أنه لا قيمة له ‏!‏‏!‏
وقد وقع البويهيون فيما وقع فيه الأتراك ، فقد أحدثوا الفوضى في البلاد وصادروا الأموال ، ودخلوا مع الناس في صراع عنيف من أجل الحصول على الأموال ‏.‏
وخلال أكثر من قرن ظل البويهيون يسيطرون على خلافة العباسيين ، ولم يفعلوا فيها شيئا ذا بال سوى أن يضيفوا إلى صورة الجند الأتراك مزيدا من ملامح الطيش والرعونة ‏.‏
وكما هي العادة في أمثال هذه الأسر المتسلطة ‏.‏‏.‏ أنها سريعة الانقسام على نفسها شديدة التنافس فيما بينها، وهكذا سقطت الأسرة البويهية إلى حضيض الانقسام والتناطح الداخلي‏.‏‏.‏ وعانى المسلمون من وراء تناطحهم وتسلطهم الشيء الكثير ‏.‏
إن سيطرة عنصر من العناصر المتعصبة قوميا أو المتأثرة بخلفية تاريخية لم تتخلص من شوائبها ‏.‏‏.‏‏.‏ هو أبرز ما واجه ركب مسيرتنا الحضارية والتاريخية ‏.‏
وبالقومية المتعصبة وبأصحاب النزعات المشبوهة وذوي الولاء لحضارات معاكسة لنا ولخطنا الحضاري ، بهؤلاء تمت عملية سقوطنا المتكرر في مراحل تاريخنا ‏.‏
لكن تاريخنا ‏.‏‏.‏ الذي تتدخل فيه إرادة الله بحفظ هذا الدين كي يظل المعلم الثابت المضيء في ليل البشرية الطويل المظلم ‏.‏‏.‏‏.‏
هذا التاريخ يجد مع كل نكبة تاريخية ، أو فترة من فترات التداعي والهبوط ، من يعيد إلى الجسم حيويته ويمنع عنه السقوط القاتل ‏.‏‏.‏ وهكذا انبعث - من جديد - من بين الأتراك أنفسهم عنصر إسلامي مجاهد ‏.‏‏.‏ أعاد للخلافة شبابها ، ونجح قائد الأتراك السلاجقة ‏"‏ طغرلبك ‏"‏ سنة 447 هـ في أن يقضي على دولة البويهيين ‏.‏
وبين عشية وضحاها سقط البويهيون الذين أثبت تاريخهم أنهم غير أهل لتحمل أمانات التاريخ ‏.‏‏.‏ وقد تعبت الأمة من جراء سياستهم أشد التعب ‏.‏‏.‏ لأن التاريخ يعلمنا دائما أنه ‏"‏ بانفصال رأس الأمة عن جسدها ‏.‏‏.‏ تتعطل طاقات الحياة فيها ‏"‏ ‏.‏
 سقوط الانفصاليين في طبرستان
في كل دولة جامعة كالدولة العباسية ، يمكن لأي راغب في السلطة أن يجد مندوحة للقيام بثورة ولرفع راية الانفصال ، وإقامة حكم ذاتي له ولأبنائه‏.‏
فثمة قوميات مختلفة ‏.‏‏.‏ من السهل استجاشة عواطف كل منها القومية ‏.‏‏.‏‏.‏
وثمة أوطان مختلفة ‏.‏‏.‏ من السهل الضرب على وتر الاستقلال ودعوى الحرية الذاتية فيها ‏.‏
وثمة عقائد مختلفة ‏.‏ سواء عقائد مخالفة تماما ، أو عقائد منشقة على العقيدة الأصل ، وبالتالي يمكن الضرب على وتر من ينضمون إلى هذه العقيدة المضادة أو المنشقة ، من أجل سيطرة العقيدة المضادة على العقيدة الأصل ‏.‏
وثمة لافتات أخرى كثيرة يمكن أن يجد فيها كل راغب في التمرد - التبرير الذي يسهل له أمام الجماهير - لاسيما الغوغاء الذين يجرون وراء كل ناعق بدون وعي - عملية الثورة والانفصال ‏.‏‏.‏ وكانت هذه أكبر التحديات التي واجهت الدولة العباسية الجامعة ‏.‏
وكان طابع الانفصال في طبرستان وبلاد اليمن مختلفا عن محاولات الاستقلال بالسلطة فقط ، كان يحمل بذرة الانشقاق الروحي عن الخلافة العباسية ‏.‏‏.‏ كان يحمل بين يديه دعوى آل البيت والترويج لأحقيتهم في الخلافة ‏.‏
وفي طبرستان في النصف الأول من القرن الثالث للهجرة ضغط على الفلاحين الإقطاع المتزايد ، وقد أقطع الخليفة العباسي محمد بن عبد الله بن طاهر - حاكم بغداد - أراضي في طبرستان لم تكفه ، فقام بوضع يده على الأراضي المجاورة له، مما جعل الفلاحين يضجون من ذلك ‏.‏
وقد استغل بعضهم هذه الفرصة ، فقاموا بإعلان الثورة على الإقطاع ووعدوا السكان برفع الإجحاف والظلم وفي سنة 250هـ وبالتحديد - قام الحسن بن زيد بإعلان ثورته وجمع حوله عددا كبيرا من الفلاحين ، واستولى على طبرستان وجرجان ، ونجح في إقامة إمارة مستقلة باسمه - وظلت دولته قائمة حتى سنة 287هـ حين ظهر السامانيون فأزاحوها - بسهولة - عن المنطقة كلها ‏.‏
ومع ذلك ظلت هذه الدعوة الشعار المسكين أو قميص عثمان الذي يتمسح فيه الراغبون في السلطة ‏.‏‏.‏ وهم يصلون إلى أغراضهم عن طريق رفع رايات مختلفة بحسب الظروف ‏.‏‏.‏ ليكن الشعار القضاء على الاستغلال ، أو محاربة الإقطاع المهم الوصول إلى الغاية ‏.‏
ولم يمض إلا قليل ‏.‏‏.‏ أربعة عشر عاما فقط ‏.‏‏.‏ حتى ظهر متمسح جديد في آل البيت ‏!‏‏!‏ ومن الغريب أن هذا الثائر الجديد ‏"‏ حسن بن علي الأطروش ‏"‏ الذي لقب نفسه ‏"‏ بناصر الحق ‏"‏ سار على نفس الطريق الذي سارت فيه الحركة السابقة التي تزعمها الحسن بن زيد ‏.‏‏.‏ فقد قام في طبرستان ‏.‏‏.‏ وقد رفع شعار ‏"‏ القضاء على الإقطاع ‏"‏ وأبرز سلاح آل البيت ، وكما هو المرتقب ، التف حوله الفلاحون ‏.‏‏.‏‏.‏ ونجح في الوصول إلى السلطة ‏.‏
وكما هو المنتظر كذلك ، لم تلبث هذه الحركة على مسرح السلطة في طبرستان أكثر من ثلاثة عشر عاما ‏(‏ 301 - 314هـ ‏)‏ وانكشفت حقيقتها ‏.‏‏.‏ ولقيت حتفها بفعل عاصفة ‏"‏ الزياريين ‏"‏ الذين أطاحوا بحكم الأطروش ، وحكموا جرجان وطبرستان بين أعوام ‏(‏ 315 - 417هـ ‏)‏ ثم زالوا كما زال غيرهم ‏.‏
وفي جنوبي الجزيرة العربية ظهرت دعوة الزيديين رافعة راية آل البيت ، متمسحة في شعار القضاء على الإقطاع ‏.‏‏.‏ وقد نجح يحيى بن الحسين من أحفاد القاسم الرسي أحد كبار علماء المذهب الزيدي في إقامة حكم لنفسه متخذا من ‏(‏ صعدة ‏)‏ عاصمة له ‏.‏ وقد حكمت الدولة الزيدية مدة طويلة بلغت قريبا من أربعة قرون ونصف ‏.‏ واعتمدت هذه الدولة في تكوينها على أسس أكثر أصالة من مجرد ‏"‏ القضاء على الإقطاع ‏"‏ ‏.‏‏.‏ وبذا حققت لنفسها انتصارا وشهرة كبيرة على امتداد العالم الإسلامي ‏.‏‏.‏ وكانت في الحق من الحركات الممتازة في التاريخ الإسلامي ‏.‏
وأيا كان الأمر ، فقد كان شعار ‏"‏ القضاء على الإقطاع ‏"‏ قميص عثمان الذي تمسحت فيه دول كثيرة وحركات أكثر ‏.‏‏.‏ ولم تتضح الرؤية عند هذه الحركات أو تلك الدول إلا أن تحقيق علاج اقتصادي مؤقت لا يكفي لإقامة دولة ، فضلا عن أن ينشئ حضارة لا تضيف جديدا لموكب البشرية ‏.‏
إن حجم العلاج لا بد أن يكون مساويا لحجم المرض ‏.‏ كما أن من الضروري أن تكون نوعية الدواء مناسبة لنوعية المرض ‏.‏‏.‏‏.‏ أما علاج ظاهرة اقتصادية بالوصول على قمة السلطة السياسية ‏.‏‏.‏ فهو جرعة كبيرة من العلاج قد تكفي للقتل والموت ‏.‏
ومن هنا أخفقت كل الحركات الزاعمة القضاء على الإقطاع ، لأنها بعد أن نجحت، أو أصدرت قرارها بإصلاح الوضع الاقتصادي - إذا حدث - تجد نفسها في فراغ ، وتجد أن مبرر وجودها قد انتهى ولم يعد ثمة ما وجب الاستمرار والبقاء
قصة سقوط الحمدانيين
من ‏"‏ تغلب ‏"‏ - إحدى قبائل العرب الكبرى - انبثقت دولة بني حمدان ، جاعلة من الموصل - أول الأمر - عاصمة لها ‏.‏‏.‏ وكان ذلك سنة 317هـ ‏(‏929م‏)‏ على يد زعيم الدولة حمدان بن حمدون ‏.‏
كان على هذه الدولة الناشئة أن تلعب دورا مصيريا في عدة جبهات ‏:‏
في محاولة تضميد جروح الدولة العباسية من الطعنات المتتالية من الأتراك الذين استبدوا بها، وحولوا خلفاءها إلى دمى للتسلية واللهو ‏.‏‏.‏ وأيضا من الطعنات الانفصالية التي تصيب الدولة من كل صوب ‏.‏
في مقاومة الغارات البيزنطية التي يقودها الإمبراطور الروماني ‏(‏ شميشق‏)‏ رغبة في الاستيلاء على بيت المقدس، وفي مقاومة الإمبراطور البيزنطي ‏"‏ نقفور فوقاس ‏"‏ الذي حاول بكل قوته السيطرة على حلب والثغور المتاخمة لحدود الدولة الرومانية ‏.‏
في مقاومة الحركة الانفصالية التي تحكم مصر الإخشيدية ، وتريد فرض سيطرة كاملة على مصر وبلاد الشام والحجاز ، وتناوئ بالتالي أية حركة انفصالية أخرى تحاول بناء نفسها على حسابها ‏.‏
لقد نجح الحسن بن عبد الله الحمداني في أن يشل نفوذ الترك ‏.‏ وأن ينقذ الخليفة العباسي المتقي بالله من استبداد الأتراك به ، وقد رضي الخليفة العباسي عن صنيعه ومنحه لقب أمير الأمراء ومنح أخاه المرافق له لقب ‏"‏ سيف الدولة ‏"‏ لكنهما سرعان ما هزما أمام الأتراك وخرجا من بغداد عائدين إلى عاصمتهما الموصل ‏.‏‏.‏ سنة 331هـ ‏"‏ 942م ‏"‏ ‏.‏ ولما تولى سيف الدولة - وكان شجاعا كريما - قام بعدة غارات لصد البيزنطيين ، ونجح في أن يطردهم من المناطق التي تسللوا إليها ، وواصل زحفه حتى دخل بلادهم واستولى على بعض حصونهم ‏.‏‏.‏ والمهم، زرع هيبته في نفوسهم ‏.‏‏.‏ وجدد شباب الإرادة القتالية ، ولم تستطع بيزنطة أن تمد نفوذها إلى بلاد الشام وفلسطين ‏.‏
وفي الجانب الإخشيدي استمر الحمدانيون في مقاتلتهم تتبع نفوذهم ، لكنهم أيام سيف الدولة خسروا أمامهم معركة في قنسرين ‏.‏‏.‏ وانتهى الأمر بصلح وضع حدود الصراع المستمر بين جبهتيهما ‏.‏
كانت هذه هي التحديات التي واجهتها دولة الحمدانيين ‏.‏‏.‏ وقد نجحت الدولة في بعضها وأخفقت في أكثرها ، ولقد بدا سيف الدولة الحمداني ‏.‏‏.‏ وكأنه الرجل الوحيد الممثل لهذه الدولة ‏.‏
كان سيف الدولة بحق يملك أكبر رصيد من أمجاد الدولة ‏.‏‏.‏ ولم يرفعه في سجل التاريخ ما قام به من حروب خارجية وحسب ، بل كانت له في مجال الحضارة والعمران الداخلي مجالات برز فيها أكثر من بروزه في المجالات الخارجية ‏.‏
ولقد يبدو سيف الدولة في أعين كثير من المؤرخين وكأنه هارون الرشيد أو المأمون ، وإنه ليعيد إلى الأذهان ذكرى تلك الساحة العلمية الفكرية التي مثلتها بغداد ‏.‏‏.‏ في عصرها الذهبي ‏.‏‏.‏ لكن الساحة كانت على عهده ‏.‏‏.‏ حلب الشهباء ‏!‏‏!‏
كان سيف الدولة - الذي احتضن المتنبي وأبا الفرج الأصفهاني والفارابي وابن نباتة فضلا عن أبي فراس الحمداني ‏"‏ شاعر الدولة ‏"‏ - كان هذا الرجل يمثل قوة الدولة وقمة ما وصلت إليه من رفعة ‏.‏
وظهرت الدولة بعده وكأنها بناء مائل للسقوط ‏.‏
وقد تولى الحكم بعد وفاة سيف الدولة ثلاثة خلفاء ضعاف حتى زالت في عهد أبي المعالي شريف سنة 394هـ ‏.‏‏.‏ أي أنها لم تعش بعد سيف الدولة الذي مات سنة 356هـ أكثر من أربعين سنة ‏!‏‏!‏ ‏.‏
لقد تمثلت قوة الدولة الحمدانية في شخص ، وكعادة الدول التي ترتبط بأشخاص تسقط بسقوطهم ‏.‏‏.‏ وكان أكبر عامل حضاري زحزح الدولة الحمدانية عن مكانتها في التاريخ أنها فشلت في الاستجابة للتحدي الذي كان أقوى منها ، ولم تنهج النهج السليم في مقاومته ‏.‏‏.‏ عن طريق إيجاد وحدة إسلامية تتجاوز الصراعات الجزئية لتواجه الخطر الحضاري الكبير ‏.‏‏.‏ وعندما تفشل دولة في الاستجابة للتحدي الذي يفرضه القدر عليها ‏.‏‏.‏ فإنها ، وإن قاومت قليلا ، فإنها لا بد أن تسقط من قطار التاريخ ‏.‏
السلاجقة ‏.‏‏.‏ الذين أنقذوا الخلافة يسقطون
في تركستان - بدولة الاستعمار السوفيتي - نشأت هذه الأسرة ‏.‏‏.‏ ولظروف ما هاجرت هذه الأسرة بقيادة كبيرها ‏"‏ سلجوق ‏"‏ الذي تنسب الأسرة إليه ‏.‏‏.‏ وبين خراسان ، وبخارى ، وأصبهان ، تراوحت إقامتها حتى استقرت بمرو حيث هاجمها السلطان الغزنوي مسعود ولكنه هزم أمامها ‏.‏‏.‏ وأصبحت الخطبة تلقى بمرو باسم داود السلجوقي ‏.‏‏.‏ نجل سلجوق الكبير ، وكان هذا في سنة 433هـ ‏.‏
ومن مرو انتشر سلطان السلاجقة إلى الري وإلى خوارزم ، وبدأ تاريخهم يظهر كقوة لها كيانها المستقل في العالم الإسلامي خلال القرن الخامس للهجرة ‏.‏
وقد نجحوا في السيطرة على بلاد كثيرة ‏.‏‏.‏ كخراسان وأصبهان وهمذان وبخارى ، وامتد نفوذهم حتى العراق ‏.‏ والتحموا بالدولة العباسية ، ثم أتيحت لهم فرصة ذهبية ‏.‏ إذ استنصر بهم الخليفة العباسي ‏"‏ القائم ‏"‏ ضد ثائر شيعي يدعى ‏"‏ البساسيري ‏"‏ عجزت الخلافة العباسية عن مقاومته ، فأسرعوا إلى انتهاز الفرصة التاريخية ودخل زعيمهم طغرل بك بغداد منتصرا على البساسيري سنة 447هـ وكان هذا العام حدا فاصلا في تاريخ السلاجقة إذ اعتبر بداية عصر نفوذ السلاجقة وسيطرتهم على مصير الخلافة العباسية الكبرى ‏.‏
امتاز السلاجقة الأتراك في معاملاتهم بالتدين ، وكانوا مظهرا للإنسان الفطري الذي هذبه الإسلام ، وإذا ما استثنينا صورا قليلة تحتمها الطبيعة البشرية التي لا تخلو من بعض القصور ، فإن هؤلاء السادة كانوا نموذجا طيبا حتى في معاملتهم للخليفة العباسي الذي حفظوا له عرشه ‏.‏‏.‏ إنهم لم يكونوا كالذين انتصر بهم المعتصم ، ولم يكونوا كالبويهيين حينما سيطروا على الخلافة وأذلوا كبرياء الخلفاء ‏.‏‏.‏ أبدا لقد احترموا الخلفاء وأجلوهم ، وكان لهم - كذلك - فضل كبير في رفع راية الإسلام ، وفي مد عمر الخلافة العباسية أكثر من قرنين من الزمان ، كما أنهم بدأوا مرحلة جديدة من التوسع الإسلامي في اتجاه آسيا الصغرى ، ويقال إن هذا التوسع كان أحد أسباب قيام الحروب الصليبية ‏.‏
ومن الظواهر المتعلقة بسياسة هؤلاء القوم الاجتماعية والفكرية ‏.‏‏.‏ إلغاء أشهر ملوكهم ‏"‏ ألب أرسلان ‏"‏ لنظام المخابرات ولجوء أحد ملوكهم ‏"‏ نظام الملك ‏"‏ إلى نظام الإقطاع ‏.‏‏.‏ بإعطاء الشخصيات السلجوقية والشخصيات الأخرى الكبرى إقطاعات أو ‏"‏ أتابكيات ‏"‏ لحسابها الخاص ‏.‏ ومن الظواهر كذلك الحملات الجهادية شبه المنتظمة التي كانت خير علاج للفوضى الداخلية ‏.‏‏.‏ كذلك من الظواهر صراع السلاجقة المستمر ضد حركات الإسماعيلية ، ونجاحهم في تقليم أظفارهم ‏.‏
وبعد صفحة تاريخية رائعة من صفحات الحضارة الإسلامية امتدت بين سنوات _ 433 - 619 ‏)‏ قدر للسلاجقة أن يأفل نجمهم وأن تغرب شمسهم بعد أن حكم منهم واحد وثلاثون زعيما سلجوقيا ، وبعد أن قدموا للخلافة الإسلامية الكبرى أجل الخدمات وحموها من كثير من عثرات السقوط ، وقدموا للحضارة الإسلامية يدا من أروع ما قدمت الدول الإسلامية من أياد ‏.‏
بيد أن السلاجقة ، وقعوا ، وهم يسيرون في الطريق ، في أخطاء ظنوها خيرا ‏.‏‏.‏ فانقلبت على دولتهم شرا ‏.‏
لقد لجأ السلاجقة - كما ذكرنا - إلى نظام الإقطاعات وأسندوا معظمها إلى شخصيات سلجوقية ، وقد حسبوا أن هذا من شأنه أن يشغل السلاجقة عن التفكير في الحكم ، وأن يرضيهم بالبعد عن السلطة ، لكن الإقطاعيين السلاجقة سرعان ما حاول كل منهم أن يكون لنفسه من إقطاعاته إمارة صغيرة حاولت كل منها الانفصال عن السلطة وهو عكس ما كان يهدف إليه السلاجقة الحكام ، وقد أدى هذا إلى تفكك وحدة السلاجقة وإلى إجهاد السلطة السياسية الحاكمة ، وإلى توزع الدول بين عديد من الأمراء ‏.‏
كما أن هذا الخطأ أدى إلى عدول السلاجقة عن طريقة اختيار زعمائهم القديمة التي كانت تعتمد على الكفاءة ‏.‏‏.‏ إلى طريقة جعل الزعامة ووراثية ‏.‏ نظرا لكثرة تنازع أمراء الإقطاعات عليها ‏.‏
ومن المضاعفات كذلك تهاون السلاجقة - في ظل تفككهم - أمام حركات التمرد الباطنية لا سيما الحركة الإسماعيلية بزعامة قائدها الحسن الصباح ‏.‏‏.‏ وقد قدر لهذه الحركة أن تستنفذ طاقة كبرى من طاقات السلاجقة التي كان في الإمكان استخدامها في القضاء على حركات التفكك التي أصيبت بها الدولة أو الزعامة السلجوقية للخلافة العباسية ‏.‏
وتبقى كلمة التاريخ الموحية‏:‏ فإن السلطة غير الحازمة ، والتي تقبل التهاون في وحدة الدول إرضاء لبعض العناصر أو الشخصيات ‏.‏‏.‏ هذه السلطة ستدفع ثمن تهاونها يوما ‏.‏
إن عقال بعير يمنع من الحاكم - بغير حق - هو انتقاص لسيادة الدولة ‏.‏‏.‏ هكذا فهم أبو بكر رضي الله عنه الأمور ‏.‏‏.‏ وبهذا نجح في القضاء على المتمردين ‏.‏
وهكذا كان يجب أن يفهم السلاجقة وغيرهم من زعماء الدول ‏.‏‏.‏ الذين يقبلون نصف الحكم ‏.‏‏.‏ أو شيئا من الحكم دون وعي منهم بأن سيادة الدولة لا تتجزأ ، وبأن أنصاف الحلول أو أرباعها ‏.‏‏.‏ مقدمة طبيعية لزوال الحكم كله ‏.‏
هكذا علمنا تاريخنا الإسلامي العظيم ‏.‏
سقوط دولة الفاطميين
حين تستعين بعدوك التاريخي وتفقد القدرة على الرؤية الصحيحة ‏.‏‏.‏ فلا ضير في أن تموت ‏.‏‏.‏ فأنت ـ في البدء ـ إنسان منتحر ‏.‏‏.‏ ‏!‏‏!‏
والتسامح قضية كبرى من قضايا حضارتنا ، ومبدأ عظيم من مبادئ إسلامنا ، لكن هذا التسامح ـ بترك الناس يحيون وفق معتقداتهم ـ شيء ، وتسليمك مقاليد الأمور لهذا الذي ينتمي روحيا إلى أعدائك ، ويشعر بتعاطف نحو من تحارب ، وتقل حضانته ـ مهما يكن ـ عن أخيك المسلم ‏.‏‏.‏ تسليمك هذا شيء آخر بعيد عن التسامح ‏.‏‏.‏ إنه نوع من الغفلة والحماقة ‏.‏‏.‏ أو بتعبير آخر نوع من الانتحار‏!‏‏!‏
وفي الدولة الفاطمية التي قامت في المغرب العربي سنة 298هـ وانتقلت قيادتها إلى مصر سنة 362هـ ‏.‏‏.‏ كانت ظاهرة الاعتماد على اليهود والنصارى سمة من سمات الحكم في الدولة ، فمن هؤلاء كان كثير من الوزراء وجباة الضرائب والزكاة، والمستشارين في شؤون السياسة والاقتصاد والعلم ، ومنهم الأطباء والثقات لدى الحكام، وإليهم تحال معظم الأعمال الجسام ‏.‏
ولقد أحدثت هذه الظروف انفصاما بين الفاطميين والشعب ـ إلى جانب عوامل أخرى هامة ـ حتى لقد كان الناس يستجيرون من تسلط اليهود في البلاد فلا يجارون ، وقد ظهرت في ذلك أشعار كثيرة معروفة ، بل إن الناس قد اضطروا إلى أن يلفتوا نظر العزيز ‏(‏ الحاكم الثاني في مصر ‏)‏ إلى هذه الظاهرة التي كان يبدي تغافلا عنها ، وقد وضعوا له صورة من الورق لرجل يطلب حاجة أثناء مرور موكبه ‏.‏‏.‏ وقد مد الرجل يدا بورقة مكتوب فيها ‏:‏ ‏"‏ بالذي أعز اليهود بمنشا، وأعز النصارى بعيسى ، وأذل المسلمين بك إلا ما قضيت ظلامتي ‏"‏ وقد لمعت في سماء الدولة الفاطمية أسماء كثيرة من هؤلاء ، فقد لمع يعقوب بن كلس ‏(‏ وسنورد تفصيلا عنه بعد ‏)‏ ، ومنصور بن مقشر النصراني الطبيب صاحب الكلمة السامية في قصر العزيز ، وعيسى بن نسطورس الكاتب ، والمنجم ابن علي عيسى ، ويجين بن وشم الكواهي ، ومنشا اليهودي الذي كان نائب العزيز في الشام ‏.‏‏.‏ وغيرهم كثير ‏.‏ وعندما وصل الحاكم بأمر الله إلى الحكم ‏.‏‏.‏ وهو رجل أجمع المؤرخون على اضطراب عقله حتى أنه كان يأمر بالشيء وينهى عنه ـ أمر بهدم الكنائس التي بمصر ، لكنه سرعان ما عاد فأمر ببنائها ، وأطلق من جديد يد اليهود في البلاد ، واستمر أمر اليهود والنصارى في عهد الظاهر ، وعندما قدر للحاكم الفاطمي السادس في مصر ‏"‏ المستنصر بن علي الظاهر ‏"‏ أن يصل إلى الحكم سنة 427هـ كانت الحالة قد بلغت قمتها من التدهور ‏.‏ وفي ظل سياسة اليهود وتحكمهم في مرافق البلاد أصبح قصر هذا الحاكم زاخرا بالدسائس التي يحيكها القواد ورجال البلاط والخصيان والنساء ، ويقف وراء كل هؤلاء هذه الطوائف يديرون المعارك لصالحهم، ويرقبون الفائز، ويفسحون في شقة الخلاف‏.‏
وقد ذاقت البلاد من الجوع والبؤس والنزاع على السلطة ما أحالها إلى فوضى لم يشهد تاريخ مصر مثلها ‏.‏ وقد صور المقريزي هذه الحالة في قوله ‏:‏ ‏"‏ لم تجد البلاد صلاحا ولا استقام لها أمر ، وتناقضت عليها أمورها ، ولم يستقر عليها وزير تحمد طريقته ‏.‏‏.‏ ‏"‏ على آخر كلامه الطويل الذي قال في آخره بأنه ‏:‏ ‏"‏ تلاشت الأمور واضمحل الملك ‏"‏ وقد فكر ابن حمدان زعيم الأتراك في مصر في تغيير الخلافة الفاطمية إلى العباسية ، وكانت حال البلاد والفاطميين تسمح بتحقيق كل ذلك ‏.‏‏.‏ لولا سوء سياسة ابن حمدان لأتباعه وانقلابهم عليه ‏.‏‏.‏ وفي هذه السنوات أكل الناس بعضهم بعضا ، وبيع الرغيف بمائة دينار ، وأكل الناس لحوم الكلاب والحمير ، ولم ينته الأمر إلا بسقوط الدولة الفاطمية السقوط الحقيقي حين ترك حكامها السلطة تماما وقبعوا في قصورهم ، وحمل أمانة الحكم الوزراء العظام الذين كان أولهم وأعظمهم ‏"‏ بدر الجمالي ‏"‏ ‏.‏
وقد أصبح بيد هؤلاء الوزراء كل مقاليد الأمور حتى أنهم لم يدعوا للخلافة ولا للخليفة في أغلب الأوقات إلا بالاسم ، وكانوا يتحكمون في اختيار الخلفاء وفي عزلهم ، والمؤرخون المنصفون يعتبرون سقوط الدولة هو تاريخ تولية بدر الجمالي أمور مصر سنة 464هـ ‏.‏‏.‏ ولم يفعل صلاح الدين الأيوبي حين أسقط الخطبة للفاطميين دون أية معارضة أو مقاومة حقيقية سنة 567هـ ـ إلا إسقاط عهد الوزراء العظام الذين كان آخرهم شاور ‏.‏‏.‏ أما الفاطميون فقد سقطوا منذ مدة طويلة أي قبل ذلك بقرن ‏.‏
ومن الغريب أن العزيز الفاطمي ‏.‏‏.‏ بلغ من حبه لوزيره يعقوب بن كلس اليهودي أن ترك له أمر الدعوة إلى المذهب الفاطمي ، وكان هذا الأخير يجلس بنفسه يعلم الناس فقه الطائفة الإسماعيلية ، وقد ألف نفسه كتابا يتضمن الفقه على ما سمعه من المعز والعزيز الذي قال له ‏:‏ ‏"‏ وددت لو أنك تباع فأبتاعك بملكي ‏"‏ ولم يدرك العزيز أن ملكه كان قد بيع فعلا بهذه السياسة التي جعلت عهد الفاطميين في مصر عهد شدة وتناطح وبؤس ‏.‏ ووقف هؤلاء يستثمرون كل هذا ويتملقون الغرائز ‏.‏‏.‏ وبقيت عبرة التاريخ عبرة للذين يطلبون النصر من الأعداء ، والذين يطلبون الحياة من السم ، والذين ينسون ‏"‏ الاستراتيجية الإسلامية العالية ‏"‏ ‏:‏ ‏"‏ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ‏"‏ ‏!‏‏!‏ ‏.‏
سقوط دولة صلاح الدين
من أسرة كردية من أذربيجان هاجرت إلى العراق ، انبثق فجر قائد هذه الدولة ـ التي لعبت بقيادته ـ دورا من أروع أدوار تاريخنا ‏.‏
ولعل ‏"‏ صلاح الدين الأيوبي ‏"‏ أروع بطل قدمته الحضارة الإسلامية على امتداد القرنين السادس والسابع للهجرة ، وبه أفلت المسلمون وأفلتت الحضارة الإسلامية من غزو عالمي صليبي كاسح كان يقوده أخبث صليبي عرفته أوروبا الهمجية في عصورها المظلمة ‏"‏ بطرس الناسك ‏"‏ ‏.‏
وقد كان لاشتراك صلاح الدين مع عمه أسد الدين شيركوه في الحملات العسكرية التي كان يرسلها نور الدين إلى مصر ، أثر كبير في تعميق خبرته وإبراز مواهبه ، وما إن مات عمه أسد الدين سنة 564 هـ حتى أسند إليه الخليفة الفاطمي في مصر ‏"‏ العاضد ‏"‏ الوزارة ، ولقبه بالملك الناصر ، فظفر صلاح الدين بحب الشعب واحترامه نظرا لحزمه وعدالته‏.‏
ولم تأت سنة 567هـ أي بعد توليته الوزارة بثلاث سنوات ـ حتى مات الخليفة العاضد ‏"‏ فطويت صفحة الخلافة الفاطمية في مصر وغيرها ، وعادت مصر ـ العاصمة الفاطمية الأولى ـ عاصمة كبرى للعباسيين تحت قيادة الدولة الأيوبية وقائدها صلاح الدين الأيوبي ‏.‏
كان أمام صلاح الدين تحديات داخلية في مصر ، فإن الآثار الفكرية التي خلفتها الدولة الفاطمية كانت تحتاج إلى إعلان ثورة فكرية ‏.‏
وكان أمام صلاح الدين خلل اقتصادي منذ أيام المجاعة العظمى ‏.‏‏.‏ أيام ‏"‏ المستنصر ‏"‏ وما جر على مصر والعالم الإسلامي الحكم الفاطمي من ويلات تسلط الوزراء العظام منذ ‏"‏ بدر الجمالي ‏"‏ ‏(‏ 464 هـ ‏)‏ إلى شاور وضرغام ‏.‏
وكان بإمكان صلاح الدين ، لو أنه قائد مخادع ، أن يعلن ثورة اقتصادية واجتماعية ، ويلهي الناس عن حقيقة الخطر الصليبي الذي يواجهونه ‏!‏‏!‏
لكن صلاح الدين لم يكن هذا القائد المخادع ، بحيث يشغل الناس لحساب الأعداء عن معركتهم الحقيقية بمعارك جانبية ‏.‏
وكان بإمكان صلاح الدين أن يبحث عن ‏"‏ اتفاقية جلاء ‏"‏ مع الصليبين أو عن ‏"‏ حل سلمي استسلامي ‏"‏ حتى تنتهي فترة تثبيته في الحكم ، ثم يعلن للناس أن الحكام السابقين يتحملون المسؤولية ، وأنه جاء إلى الحكم بعد فوات الأوان ، وبالتالي يخضع العالم الإسلامي لهذا الغزو الخبيث ‏!‏‏!‏
لكن صلاح الدين لم يكن هذا القائد المخادع ‏.‏
وفي مواجهة غزو صليبي عالمي أعلن صلاح الدين ثورة إسلامية عالمية ، وأصبح هو رمزها ومحورها ، وكان هذا هو الطريق الوحيد ولا يزال هو الطريق ‏.‏
لقد جاء توحيد العالم الإسلامي جنبا إلى جنب مع الجهاد المستمر ضد الصليبية العالمية الحاقدة ، ولم يكن صلاح الدين بالأبله الذي يبحث عن أي حل بديل للجهاد، فوسط الحروب التي تهز الكيان المادي والمعنوي والفكري للأمة لا يمكن إنجاح أي هدف بعيد عن الهدف الأول ، وكل الأهداف تأتي من خلال هذا الهدف، لأن الجماهير تعتقد أنها عملية تلهية وخداع ‏.‏‏.‏ وقد دخل صلاح الدين عديدا من المعارك قبل حطين الشهيرة ‏.‏‏.‏ كموقعة ‏"‏ مرج عيون ‏"‏ جنوب لبنان سنة 575 هـ وموقعة ‏"‏ مدينة صفد ‏"‏ في السنة نفسها ‏.‏
وعلى امتداد كل السنوات كانت هناك معارك لا تحصى بين صلاح الدين والصليبين ‏.‏
وقد شن صلاح الدين على الصليبيين حروبا واسعة من أجل استخلاص إمارات إسلامية استولى عليها الصليبيون وأسسوا فيها إمارات صليبية مضى على استيلائهم عليها قريبا من تسعين سنة كأنطاكية وطرسوس والرها وبيت المقدس وطرابلس ‏.‏‏.‏ لم يكن صلاح الدين ساذجا ضعيفا متهاونا فيدعو إلى حدود ما قبل ‏"‏ معركة ‏"‏ ما ، أو ‏.‏‏.‏ ‏"‏ اتفاقية ‏"‏ ما ‏.‏‏.‏ ‏!‏‏!‏
لقد كان الحق الإسلامي في عقيدته مقدسا لا يقبل التفريط والمساومة ‏!‏‏!‏
هكذا كان هذا الرجل العظيم ‏.‏ صلاح الدين الذي انتصر في حطين واسترد بيت المقدس ‏!‏‏!‏
وبوفاة صلاح الدين بقيت الدولة الأيوبية التي تنسب إليه تؤدي دورها قريبا من ستين سنة ‏.‏
لكن هؤلاء الحكام كانوا أقل من صلاح الدين ، فلم يستطيعوا لعب الدور الذي لعبه ‏.‏‏.‏ وكان بعضهم متخاذلا يؤمن بإمكانية المفاوضات مع العدو الصليبي التاريخي ، كالملك الكامل الذي استجلب سخط العالم الإسلامي كله ، حين قام بتسليم القدس للصليبيين ، وقد تمكن الصالح أيوب الذي جاء بعده من استردادها ‏.‏
ومن الغريب أن هذه الدولة التي بدأت بعظيم من أعظم الرجال هو صلاح الدين ‏.‏‏.‏ وانتهت بملك عظيم كذلك هو الملك الصالح ، كانت نهايتها على يد امرأة مملوكة من هؤلاء اللائى يظهرن في عصور الضعف ، ويساعدن على سقوط الدول ‏.‏
إنها واحدة من هؤلاء النسوة القويات اللائى يجدن اللعب في خفاء القصور ودستورها ، متجردات من كل خصائص الأنوثة الحقيقية ، مستغلات مظاهر هذه الأنوثة في القتل والتدمير ‏.‏‏.‏ إنها شجرة الدر ‏.‏‏.‏ التي قتلت ابن زوجها ‏"‏ توران شاه ‏"‏ لكي تنفرد بالحكم ، ثم شربت من نفس الكأس حين قتلها المماليك أخذا بثأر زوجها منها ‏.‏
وعجبا ‏.‏‏.‏ لقد قضي على الدولة التي قامت على أكتافها واحد من أعظم الرجال على يد مملوكة ـ مهما اختلفنا حولها ـ فإنها كذلك من أبرز نساء العالم ‏.‏
من عوامل سقوط العباسيين
من أعرق الصفحات التي قدمناها للحضارة الإنسانية ، وللتاريخ البشري صفحة الدولة العباسية ‏.‏
خمسة قرون وأكثر ‏(‏ 132 هـ ـ 656 هـ ‏)‏ مرت على التاريخ البشري ، وهو يحني جبهته لهذه الدولة ‏.‏
وبالطبع ‏.‏‏.‏ فليس من خصائص المسيرة البشرية أن تظل على وتيرة واحدة ، وهكذا كان شأن الدولة العباسية في مسيرتها ، يتعاورها المد والجزر ، واختلف عليها الحماة بين أتراك وبويهيين وأتراك سلاجقة ، لكنها بقيت مع ذلك رمز الهيبة التاريخية التي تفرض نفسها على كل القوى ، مستمدة هذه الهيبة من رصيد الخلافة الإسلامية التي مثلت وحدة الوجود الإسلامي إلى فترة قريبة من عمر التاريخ ‏.‏
كان قيام هذه الدولة حركة سياسية قامت على تخطيط ، لعله لم يتوفر للمسلمين في كل تاريخهم ‏.‏‏.‏ دقة وعمقا ‏.‏‏.‏ وصبرا على النتائج ، واستغلالا لكل القوى وسرية ، وتوافر لكل مقومات النجاح ‏.‏
ثم كان السير التاريخي لهذه الدولة معجزة عجيبة ، فوسط بحار متلاطمة الأمواج، وعالم إسلامي فسيح لا يمكن ، بل يتعذر استمرار تماسكه ‏.‏‏.‏ وأعداء خارجيين من عناصر متباينة المذاهب والجنس والميول ‏.‏
وسط هذا كله شقت الدولة طريقها ‏.‏‏.‏ ولا شك في أنها كانت بين الحين والحين تتعرض لحركة تفكك من هنا، وحركة تمرد من هناك ، وبروز لحركة خروج في ناحية ثالثة ‏.‏‏.‏ وغلبة عنصر من العناصر في مكان رابع ‏.‏
ولكن مهما يكن ‏.‏‏.‏ فهذه هي طبيعة المسيرة البشرية ، ولم يقدم لنا التاريخ على كثرة ما قدم مدينة فاضلة خلت من كل النوازع البشرية وخلت من الصراع ‏.‏‏.‏ والمد والجزر ‏!‏‏!‏
وعبر القرون الخمسة تقلب في الحكم عشرات من الحكام ‏.‏‏.‏ بلغوا سبعة وثلاثين خليفة، أولهم أبو العباس السفاح ثم أبو جعفر المنصور ‏.‏‏.‏ وقد برز منهم كثيرون كالمأمون والرشيد والمعتصم والواثق والمتوكل والمهدي ‏.‏
وكان آخرهم ـ ومن أشأمهم ـ أبو أحمد المستعصم الذي استسلم للتتار ‏.‏
وظهرت أسر قوية وعناصر كبيرة سيطرت على الدولة أحيانا كالبرامكة وبني بويه والسلاجقة ‏.‏
وتمتعت دول كثيرة بالاستقلال الفعلي عن الدولة كالطولونيين والإخشيديين في مصر ، وبني طاهر في خراسان ، وبني سامان في فارس وما وراء النهر ، والغزنويين في أفغانستان والبنجاب والهند ، وبني بويه ـ الذين لم يستقلوا وحسب ـ بل تحكموا في الخلفاء أنفسهم في شيراز في فارس ‏.‏‏.‏ ثم السلاجقة ‏.‏
وهكذا ـ كما ذكرنا ـ تعاورت كل ظروف المسيرة التاريخية هذه الدولة ذات القرون الخمسة ‏!‏‏.‏
وخلال رحلة الدولة العباسية الطويلة في التاريخ ، لم يجد المؤرخون بدا من تقسيم هذه الدولة إلى عصور ثلاثة ‏:‏ العصر الأول ‏(‏ 132هـ ـ 232 هـ ‏)‏ وفيه كانت السلطة للخلفاء ما عدا المغرب والأندلس ‏.‏ والعصر الثاني ‏(‏ 232 ـ 590 هـ ‏)‏ وفيه ضاعت السلطة من الخلفاء لتكون في يد الأتراك والبويهيين والعصر الثالث ‏(‏ 590 ـ 656 هـ ‏)‏ وفيه عادت السلطة إلى أيدي الخلفاء في حدود بغداد وما حولها، دون بقية أملاك الخلافة التي سطا عليها الطامعون ‏.‏
وفي مثل دولة جامعة كبيرة ذات حياة حافلة كالدولة العباسية يصعب الوصول إلى رأي أخير في أسباب انحلالها ‏.‏‏.‏‏.‏
ـ أكانت حركات الانشقاق عن الدولة سبب هذا الانحلال ‏؟‏
لا ‏:‏ إن حركات الانشقاق هذه ظاهرة أو نتيجة من نتائج بروز عوامل الانحلال ‏.‏
أكان ظهور أو تحكم عناصر غير عربية في الحكم من أسباب هذا الانحلال ـ لا ، فهذه العناصر قد وجدت في حضارات كثيرة وأين هي الدولة التي تخلو من خدمات عناصر ليست منها ‏؟‏ ‏.‏‏.‏ ثم إن هؤلاء لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا في ظل مظاهر الانحلال الحقيقية ، وأدى معظمهم خدمات للدولة كانت سببا من أسباب بقائها وصمودها ‏.‏
أكان ظهور حركات التمرد الديني كالقرامطة والحشاشين وغيرهم هو السبب الأقوى في تحلل الدولة ‏؟‏
ومما لا شك فيه أن لهذه الحركات أثرها الكبير في ضياع ‏"‏ الوحدة العقائدية ‏"‏ وفي ضياع كثير من مثل الإسلام الصافية خلال هذه العصور ‏.‏‏.‏ وفي خلق جو من الفوضى الفكرية والاجتماعية والاقتصادية ، لكن مع ذلك ، وإن كان هذا سبب قويا ، فليس هو السبب الأقوى في سقوط الدولة العباسية ‏.‏ فما هي إذن ـ عوامل تحلل الدولة العباسية ودخولها في طور الاضمحلال ‏؟‏
لا شك في أن العوامل السابقة وغيرها ، كان لها تأثيرها الكبير في اضمحلال الدولة العباسية وفي دخولها مرحلة الأفول ‏.‏
بيد أن أخطر العوامل التي أسقطت خلافة العباسيين ، إهمالهم لركن هام من أركان الإسلام ‏.‏‏.‏ وهو ‏(‏ الجهاد ‏)‏ ، فبعد المعتصم المتولي أمور الدولة سنة ‏(‏ 833م ‏)‏ لم نسمع عن معارك ذات شأن قامت بها الدولة ، ولم يكن مبدأ ‏"‏ الجهاد الدائم ‏"‏ حماية لهذه الدولة المترامية الأطراف أحد أركان السياسة العباسية ‏.‏
لقد تقوقعوا في مشاكل الدولة الداخلية ‏.‏‏.‏ فحصرتهم مشاكلها ‏.‏‏.‏ وماتوا ببطء ، ولو أنهم وجهوا طاقة الأمة نحو ‏"‏ الجهاد ‏"‏ ضد الصليبيين ، لتغير أمر الحركات الهدامة التي قدر لها أن تظهر وتنتشر ، وذلك أن هذه الحركات لا تنتشر إلا في جو مليء بالركود والفساد ، والمناخ الوحيد الصالح للقضاء عليها هو المناخ القتالي الذي يكشف المعادن النقية ويذيب المعدن الرخيص ‏.‏
لقد كانت الحاجة الإسلامية ملحة في ضرورة رفع راية الجهاد ، وكانت الدولة الإسلامية التي تعرضت للانشقاق والتمزق تحتاج إلى هذا الصمام ليحميها من جو السكون والاستسلام ‏.‏
لكن العباسيين غزوا في عقر دارهم ‏.‏‏.‏ فذلوا ، ولم يرفعوا راية الجهاد ضد العدو الخارجي ‏.‏‏.‏ فارتفعت رايات العصيان الداخلي ‏.‏
وكان بإمكانهم أن يشغلوا الأجناس المختلفة التي ضمتها الدولة في هذه الحروب الجهادية المستمرة ضد الغزاة والوثنيات المختلفة ‏.‏‏.‏ لكنهم لم يفعلوا ، فتحركت النعرات القومية الجاهلية لتفتت الدولة، وتقسم جسمها تحت رايات مختلفة ليست لها بالإسلام أو الجهاد صلة ‏.‏
وفي سنة 656هـ ‏(‏ 1258م ‏)‏ كان هولاكو ـ حفيد جنكيز خان ـ يؤدب الذين اتجهوا إلى كل الطرق إلا طريق الجهاد ‏.‏‏.‏ وحاولوا العلاج بكل الوسائل إلا الوسيلة الإسلامية القوية الخالدة ‏.‏
وقد هاجم هولاكو بغداد وهدم أسوارها ، وأعمل المنجنيق فيها ، وحصد بغداد ، حتى لم يعد ممكنا الإقامة فيها لشدة روائحها المنفرة ، وعندما خرج الخليفة المستعصم إليه مستسلما بصحبة ثلاثمائة من أصحابه وقضاته دون شرط ، أمر هولاكو بقتلهم جميعا ، وطويت صفحة الخلافة العباسية ‏.‏
ذلك أن أسلوب الأحلام الرومانتيكية الساذجة ليس وسيلة البقاء أو تشييد الحضارات ‏.‏‏.‏ فالذين لا يملكون إرادة الهجوم ‏.‏‏.‏ يفقدون القدرة على الدفاع ‏!‏‏!‏
المماليك أبطال عين جالوت يسقطون
كانوا دائما أهل طعان ونزال ‏.‏‏.‏ كانوا أشقاء للسيف والرمح ، هو هويتهم وهو مؤهلهم للحياة والبقاء ‏.‏‏.‏ وعلى امتداد تاريخهم كان السيف مقرونا بهم ‏.‏ وكانوا عضد الدولة الإسلامية في كثير من المواقف ، وكانوا حماتها من أعدائها ‏.‏
وفي مقابل ذلك عاشوا ‏.‏‏.‏ وتحملتهم شعوب مصر والشام ، وسمحت لهم بالسيطرة عليها ‏.‏‏.‏ وهم بدورهم كانوا جيشها وأسطولها وحماتها أمام كل غزو خارجي ، وكانوا يخضعون لتقاليد البلاد ولا يعرفون لهم ولاء إلا للدين الذي عاشوا به وربوا على تعاليمه ، وإلا للسلطان الذي يحكم ‏.‏‏.‏‏.‏
ثم مع تطورهم الداخلي أصبح ولاؤهم للسلطان الذي يحكمهم منهم ‏.‏‏.‏
ولقد شكلوا مجتمعا ذا هوية خاصة ، له أسلوبه الخاص في الحياة ، وله تربيته الخاصة وله فكره الخاص ‏.‏‏.‏ لقد كان مجتمعهم أشبه ما يكون بالمجتمع العسكري أو المجتمع البحري الذي يعيش للبحر أو الجندية ، فالجندية عقله وهي عاطفته ‏.‏‏.‏ ولا ولاء عنده لسواها ‏.‏
وعندما مات فجأة آخر سلاطين الأيوبيين الملك الصالح أيوب ‏.‏‏.‏ تكتمت زوجه شجرة الدر الخبر لأن بلاد مصر كانت في حرب مع لويس التاسع الذي هزم وأبيد جيشه في دمياط والمنصورة ، ثم استدعت الزوجة الملكة ابن زوجها ‏"‏ توران شاه ‏"‏ لينقذ البلاد ، فلما جاء توران وأنقذ البلاد من الصليبيين ، وحاول أن يستأثر بالسلطة دبرت المرأة قتله ‏.‏‏.‏ ثم أقامت نفسها بمساعدة المماليك ملكة على مصر ، وقد اختار المماليك كبيرهم عز الدين أيبك ليقوم بمساعدة ‏"‏ المملوكة ‏"‏ التي صارت ‏"‏ ملكة ‏"‏ ‏(‏ شجرة الدر ‏)‏ في إدارة شؤون مصر ، وتطور الأمر فتزوجت شجرة الدر من مساعدها عز الدين ، وتنازلت له عن السلطة ‏.‏
وهكذا تم تنازل آخر من ينتسبون إلى دولة الأيوبيين بنسب إلى كبير المماليك ، ومع أن شجرة الدر تعتبر البداية التاريخية لدولة المماليك ، لكن البداية الأكثر عمقا وأحقية هي التي مثلها هذا التنازل ، ثم استأثر عز الدين أيبك بالسلطة سبع سنوات أحست فيها المملوكة القاتلة بأنها سلبت كل سلطة ، فقامت بقتل زوجها الجديد مثلما قتل من قبل ابن زوجها القديم ‏.‏
لكن المماليك سرعان ما قتلوها ثأرا وانتقاما ‏.‏‏.‏ واستقر الأمر لدولة المماليك في مصر والشام ‏.‏
والمماليك قسمان ‏:‏ برجية نسبة إلى أبراج القلعة التي كانوا يسكنون فيها بالقاهرة ‏.‏‏.‏ وبحرية نسبة إلى جزيرة الروضة المطلة على النيل التي كانوا يسكنون فيها كذلك ، ومن أشهر المماليك الأول برقوق ‏.‏‏.‏ وآخرهم قانصوه الغوري الذي سقط تحت سنابك خيل السلطان سليم سنة 1527م ‏.‏‏.‏
ومن أشهر المماليك البحرية عز الدين أيبك وبيبرس والمنصور قلاوون ‏.‏‏.‏ وقد انتهى هؤلاء من قبل المماليك البرجية بحوالي قرنين وكان المماليك البرجية ـ أبطال عين جالوت ـ يمثلون امتدادهم التاريخي ‏.‏
لقد لعب المماليك البرجية بخاصة في تاريخنا دورا لم تقم به إلا دول قليلة في التاريخ ‏.‏‏.‏ لقد صدوا غارتين حضارتين من أكبر وأشهر الغارات التي عرفها تاريخنا وتاريخ الإنسانية ‏.‏
كانت الأولى يمثلها زحف هولاكو الذي ينتمون إليه جنسيا ، لقد صدوه بعقيدتهم الإسلامية التي لم يعد لهم ولاء إلا لها ‏(‏ الحمد لله أن نظرية القومية العنصرية لم تكن ظهرت بعد ‏)‏ وقد وقفوا أروع وقفاتهم في صده في عين جالوت الشهيرة رافعين راية واإسلاماه ‏!‏‏!‏
ثم كانت الثانية في معاركهم الدائمة ضد الصليبيين الذين كانت لهم بقايا بعد صلاح الدين ، فعلى يد السلطانين المنصور قلاوون الذين تسلم الحكم سنة 678 هـ والسلطان الأشرف خليل ـ الذي تولى الحكم سنة 689 هـ ‏.‏‏.‏ على يد هذين السلطانين ـ فضلا عن جهود بيبرس ـ تهاوت قلاع الصليبيين الباقية والتي كانوا قد تقدموا في بعضها بعد صلاح الدين كحصن المرقب وعكا وغيرهما ، وطويت على يد المماليك آخر صفحات الغزو الصليبي الذي استمر قرنين من الزمان وكان ذلك سنة 960 هـ ‏.‏
وقد تضافرت ظروف عالمية ، كاكتشاف رأس الرجاء الصالح ـ وظروف إسلامية كبروز الأتراك ـ ثم محمد علي ، وظروف داخلية كانقسام الأتراك على أنفسهم ‏.‏
تضافرت كل هذه الظروف على إنهاء الدور الذي قام به المماليك ، لكن كان أكبر سبب هوى بالمماليك وزحزحهم من مكانهم في التاريخ ، هو أنهم نسوا الرسالة التي عاشوا من أجلها وتعاقدوا مع الشعوب التي حكموها بشأنها ‏.‏
نسو رسالتهم في الدفاع الخارجي ‏.‏‏.‏ نسوا السيف ، وتبلدوا عند أسلوب معين ، ولم يطوروا أنفسهم ، ثم تطوروا فانقلبوا من حماية خارجية للأمة إلى متسلطين داخليين عليها يمنعون حركتها وتطورها ‏.‏
وبذا فقدوا دورهم في التاريخ ‏.‏‏.‏ وسقطوا بعد أن أدوا للحضارة الإسلامية الكثير ‏.‏‏.‏ وأنقذوها من أكبر خطرين عالميين وهما التتار والصليبيون ‏.‏‏.‏
                                 

الحديث بين التدوين والتأ صيل

بدايات  تدوين الحديث ممزوجًا بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين
  قال ‏(‏ابن حجر‏)‏ في أول ‏(‏مقدمة فتح الباري‏)‏ ما نصه‏:‏
اعلم أن آثار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم تكن في عصر الصحابة وكبار التابعين مدونة في الجوامع، ولا مرتبه، لأمرين‏:‏
أحدهما‏:‏ أنهم كانوا في ابتداء الحال قد نهوا عن ذلك، كما ثبت في ‏(‏صحيح مسلم‏)‏، خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم‏.‏
وثانيهما‏:‏ لسعة حفظهم، وسيلان أذهانهم، ولأن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة‏.‏
ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار، وتبويب الأخبار، لمّا انتشر العلماء في الأمصار، وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكري الأقدار، واتسع الخرق على الراقع، وكاد أن يلتبس الباطل بالحق‏.‏
فأول من جمع في ذلك ‏(‏الربيع بن صبيح‏)‏ ‏(‏وسعيد ابن أبي عروبة‏)‏ وغيرهما‏.‏
دونت أحكام الحديث في منتصف القرن الثاني
وكانوا يصنفون كل باب على حده، إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثانية في منتصف القرن ‏(‏ص 6‏)‏ الثاني، فدونوا الأحكام‏.‏
فصنف ‏(‏الإمام مالك‏)‏ ‏(‏الموطأ‏)‏ بالمدينة، وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز، ومزجه بأقوال الصحابة، وفتاوى التابعين، ومن بعدهم‏.‏
أول من صنف الحديث بمكة ابن جريج
وصنف ‏(‏أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج‏)‏ بمكة، ‏(‏وأبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي‏)‏ بالشام، ‏(‏وأبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري‏)‏ بالكوفة، ‏(‏وأبو سلمة حماد بن سلمة بن دينار‏)‏ بالبصرة‏.‏
 ابتداء تدوين المسانيد على رأس المائتين
ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم، إلى أن رأى بعض الأئمة منهم، أن يفرد حديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاصة، وذلك على رأس المائتين‏.‏
فصنف ‏(‏عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي‏)‏ مسندا، وصنف ‏(‏مسدد بن مسرهد البصري‏)‏ مسندا، وصنف ‏(‏أسد بن موسى الأموي‏)‏ مسندا، وصنف ‏(‏نُعيم بن حماد الخزاعي‏)‏ نزيل مصر مسندا، ثم اقتفى الأئمة بعد ذلك أثرهم، فقلَّ إمام من الحفاظ إلا وصنف حديثه على المسانيد، ‏(‏كالإمام أحمد بن حنبل‏)‏ ‏(‏و إسحاق بن راهويه‏)‏ ‏(‏وعثمان بن أبي شيبة‏)‏ وغيرهم من النبلاء‏.‏
ومنهم من صنف على الأبواب والمسانيد معا ‏(‏كأبي بكر بن أبي شيبة‏)‏ اهـ‏.‏
وعبارته في ‏(‏إرشاد الساري‏)‏ قال‏:‏
منهم من رتب على المسانيد ‏(‏كالإمام أحمد بن حنبل‏)‏ ‏(‏و إسحاق بن راهويه‏)‏ ‏(‏وأبي بكر ابن أبي شيبة‏)‏ ‏(‏وأحمد بن منيع‏)‏ ‏(‏وأبي خيثمة‏)‏ ‏(‏والحسن بن سفيان‏)‏ ‏(‏وأبي بكر البزار‏)‏ وغيرهم‏.‏
ومنهم من رتب على العلل‏:‏ بأن يجمع في كل متن طرقه، واختلاف الرواة فيه، بحيث يتضح إرسال ما يكون متصلا، أو وقف ما يكون مرفوعا، أو غير ذلك‏.‏
ومنهم من رتب على الأبواب الفقهية، وغيرها، ونوّعه أنواعا، وجمع ما ورد في كل نوع، وفي كل حكم إثباتا ونفيا، في باب فباب، بحيث يتميز ما يدخل في الصوم مثلا عما يتعلق بالصلاة‏.‏
وأهل هذه الطريقة منهم من تقيد بالصحيح ‏(‏كالشيخين‏)‏ وغيرهما، ومنهم من لم يتقيد بذلك كباقي الكتب الستة، وكان أول من صنف في الصحيح ‏(‏محمد بن إسماعيل البخاري‏)‏‏.‏
ومنهم المقتصر على ‏(‏ص 7‏)‏ الأحاديث المتضمنة للترغيب والترهيب، ومنهم من حذف الإسناد واقتصر على المتن فقط، ‏(‏كالبغوي‏)‏ في ‏(‏مصابيحه‏)‏ ‏(‏واللؤلؤي‏)‏ في ‏(‏مشكاته‏)‏ اهـ‏.‏
وقال ‏(‏شيخ الإسلام زكريا الأنصاري‏)‏ في شرحه ‏(‏لألفية المصطلح‏)‏ ‏(‏للعراقي‏)‏‏:‏
أول من صنف مطلقا ‏(‏ابن جريج‏)‏ بمكة، ‏(‏ومالك‏)‏ ‏(‏وابن أبي ذئب‏)‏ بالمدينة‏.‏
 أول من صنف الحديث بالشام الأوزاعي
‏(‏والأوزاعي‏)‏ بالشام، ‏(‏والثوري‏)‏ بالكوفة، ‏(‏وسعيد ابن أبي عروبة‏)‏ ‏(‏والربيع بن صبيح‏)‏ ‏(‏وحماد بن سلمة‏)‏ بالبصرة‏.‏
 أول من صنف الحديث باليمن
‏(‏ومعمر بن راشد‏)‏ ‏(‏وخالد بن جميل‏)‏ باليمن، ‏(‏وجرير بن عبد الحميد‏)‏ بالرِّي، ‏(‏وابن المبارك‏)‏ بخراسان، وهؤلاء في عصر واحد، فلا يُدرى أيهم سبق، ذكره شيخنا يعني ‏(‏ابن حجر‏)‏ كالناظم يعني ‏(‏العراقي‏)‏ اهـ‏.‏
وذكر غيره من جملة هؤلاء أيضًا، ‏(‏هشيم بن بشير الواسطي‏)‏ بواسط‏.‏
الاستغناء بحفظ الحديث عن كتابته في الطبقة الأولى من التابعين
وقال ‏(‏الأبي‏)‏ في ‏(‏شرح مسلم‏)‏‏:‏
قال ‏(‏مكي‏)‏ في ‏(‏القوت‏)‏ كره كَتْبَه يعني الحديث الطبقةُ الأولى من التابعين، خوف أن يشتغل به عن القرآن، فكانوا يقولون‏:‏ احفظوا كما كنا نحفظ‏.‏ وأجاز ذلك من بعدهم‏.‏
وما حدث التصنيف إلا بعد موت ‏(‏الحسن‏)‏ ‏(‏وابن المسيَّب‏)‏ وغيرهما من كبار التابعين، فأول تأليف وضع كتاب ‏(‏ابن جريج‏)‏ وضعه بمكة في ‏(‏الآثار‏)‏ وشيء من التفسير، عن ‏(‏عطاء‏)‏ ‏(‏ومجاهد‏)‏ وغيرهما، من أصحاب ‏(‏ابن عباس‏)‏‏.‏
ثم كتاب ‏(‏معمر بن راشد اليماني‏)‏ باليمن، فيه سنن‏.‏
ثم ‏(‏الموطأ‏)‏‏.‏
ثم ‏(‏جامع سفيان الثوري‏)‏ ‏(‏وجامع سفيان بن عيينة‏)‏ في السنن والآثار وشيء من التفسير‏.‏
فهذه الخمسة أول شيء وضع في الإسلام‏.‏ اهـ‏.‏
وقال في ‏(‏تبييض الصحيفة‏)‏‏:‏ قال بعض من جمع ‏(‏مسند أبي حنيفة‏)‏ من مناقب ‏(‏أبي حنيفة‏)‏ التي انفرد بها أنه أول من دون ‏(‏ص 9‏)‏ علم الشريعة، ورتبه أبوابا ثم تابعه ‏(‏مالك بن أنس‏)‏ في ترتيب ‏(‏الموطأ‏)‏، ولم يسبق ‏(‏أبا حنيفة‏)‏ أحد‏.‏ اهـ‏.‏
 أول من صنف الحديث في المدينة
وقال في ‏(‏تدريب الراوي‏)‏‏:‏ أول من جمع ذلك يعني الآثار ‏(‏ابن جريج‏)‏ بمكة، ‏(‏وابن إسحاق‏)‏ أو ‏(‏مالك‏)‏ بالمدينة‏.‏
 أول من صنف الحديث بالبصرة
‏(‏والربيع بن صبيح‏)‏ أو ‏(‏سعيد ابن أبي عروبة‏)‏ أو ‏(‏حماد بن سلمة‏)‏ بالبصرة، ‏(‏وسفيان الثوري‏)‏ بالكوفة، ‏(‏والأوزاعي‏)‏ بالشام، ‏(‏وهُشيم‏)‏ بواسط، ‏(‏ومعمر‏)‏ باليمن، ‏(‏وجرير بن عبد الحميد‏)‏ بالري، ‏(‏وابن المبارك‏)‏ بخراسان‏.‏
 أول من صنف الحديث بالمدينة ابن أبي ذئب
قال ‏(‏العراقي‏)‏ ‏(‏وابن حجر‏)‏‏:‏
وكان هؤلاء في عصر واحد، فلا ندري أيهم سبق، وقد صنف ‏(‏ابن أبي ذئب‏)‏ بالمدينة ‏(‏موطأ‏)‏ أكبر من ‏(‏موطأ مالك‏)‏ حتى قيل ‏(‏لمالك‏)‏‏:‏ ما الفائدة في تصنيفك‏؟‏ فقال‏:‏ ما كان لله بقي‏.‏
 جمع الحديث سبق إليه الشعبي
قال شيخ الإسلام يعني ‏(‏ابن حجر‏)‏‏:‏ وهذا بالنسبة إلى الجمع بالأبواب، أما جمع حديث إلى مثله في باب واحد فقد سبق إليه ‏(‏الشعبي‏)‏، فإنه روي عنه أنه قال‏:‏ هذا باب من الطلاق جسيم، وساق فيه أحاديث، ثم تلا المذكورين، كثير من أهل عصرهم، إلى أن رأى بعض الأئمة أن تفرد أحاديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاصة، وذلك على رأس المائتين، ثم ذكر بقية كلام شيخ الإسلام الذي تقدم لنا عنه‏.‏
ثم قال‏:‏ قلت، وهؤلاء المذكورون في أول من جمع كلهم في أثناء المائة الثانية‏.‏
 ابتداء تدوين الحديث وقع على رأس المائة في خلافة عمر بن عبد العزيز
وأما ابتداء تدوين الحديث فإنه وقع على رأس المائة في خلافة ‏(‏عمر بن عبد العزيز‏)‏ بأمره، اه المراد منه، وبالجملة فتدوين الحديث والعلوم النافعة لديه‏.‏
إنما حدث بعد الصدر الأول المرجوع إليه، ثم كثرت بعد ذلك فيه التصانيف، وانتشرت في أنواعه وفنونه التآليف، حتى أربت على العد، وارتقت من كثرتها عن التفصيل والحد، وهي مراتب متفاوتة وأنواع مختلفة‏.‏
ما ينبغي لطالب الحديث البداية به
فمنها‏(‏ص 11‏)‏ ما ينبغي لطالب الحديث البدءاة به‏:‏
وهو أمهات الكتب الحديثية وأصولها، وأشهرها وهي ستة‏.‏
 الكتب الستة
صحيح الإمام ‏(‏أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن المغيرة بن بَرْدِزبه البخاري‏)‏ بلدًا، نسبة إلى بخارى بالقصر، أعظم مدينة وراء النهر، بينها وبين سمرقند مسافة ثمانية أيام، ‏(‏الجعفي ولاء‏)‏ لأن جده ‏(‏المغيرة‏)‏ أسلم على يد ‏(‏اليمان بن أخنس الجعفي‏)‏ والي بخارى، الفارسي نسبا من أبناء فارس، المتوفى بخرتنك، قرية بظاهر سمرقند، على ثلاث فراسخ منها، وقيل‏:‏ على فرسخين، سنة ست وخمسين ومائتين، وهو أصح كتاب بين أظهرنا بعد كتاب الله‏.‏
و‏(‏صحيح أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري‏)‏ نسبة إلى بني قشير قبيلة معروفة من قبائل العرب، ‏(‏النيسابوري‏)‏ نسبة إلى نيسابور مدينة مشهورة بخراسان من أحسن مدنها وأجمعها للعلم والخير، المتوفى بها سنة إحدى وستين ومائتين‏.‏
وسنن ‏(‏أبي داود سليمان بن الأشعث الأزدي‏)‏، نسبة إلى الأزد، أبي قبيلة باليمن، ‏(‏السجستاني‏)‏، نسبة إلى سجستان، وينسب إليها سجزي أيضًا على غير قياس، مدينة بخراسان، المتوفى بالبصرة سنة خمس وسبعين ومائتين، قيل‏:‏ وهو أول من صنف في السنن، وفيه نظر يتبين مما يأتي‏.‏
وجامع ‏(‏أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك السلمي‏)‏، بضم السين خلافا لمن قال بفتحها، نسبة إلى بني سليم قبيلة معروفة، ‏(‏الترمذي‏)‏ نسبة إلى ترمذ، مدينة قديمة على طرف نهر بلخ المسمى بجيحون، الضرير المتوفى بترمذ أو ببوغ، وهي قرية من قرى ترمذ على ستة فراسخ منها، سنة تسع، وقيل‏:‏ سنة خمس وسبعين ومائتين، ويسمى‏:‏ ‏(‏بالسنن‏)‏ أيضًا، خلافا لمن ظن أنهما كتابان، و‏(‏بالجامع الكبير‏)‏‏.‏
وسنن ‏(‏أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر النسائي‏)‏ نسبة إلى نسا، مدينة بخراسان، وقيل‏:‏ كورة من كور نيسابور، والقياس نسوي، المتوفى بالرملة بمدينة فلسطين من أرض الشام ودفن بها، وقيل‏:‏ حمل إلى مكة فدفن فيها بين الصفا والمروة، وقيل‏:‏ إنه توفي بمكة، ودفن بها سنة ثلاث وثلاثمائة‏.‏
وهو آخر الخمسة المذكورين وفاة، وأطولهم سنا، والمراد بها ‏(‏الصغرى‏)‏، فهي المعدودة من الأمهات، وهي التي خرَّج الناس عليها الأطراف والرجال، دوَّن ‏(‏الكبرى‏)‏، خلافا لمن قال أنها المرادة‏.‏
وسنن ‏(‏أبي عبد الله محمد بن يزيد‏)‏ المعروف ‏(‏بابن ماجة‏)‏، وهو لقب أبيه لا جده، ولا أنه اسم أمه، خلافا لمن زعم ذلك، وهاؤه ساكنة وصلا ووقفا لأنه اسم أعجمي، ‏(‏الربعي‏)‏، ‏(‏ص 13‏)‏ نسبة إلى ‏(‏ربيعة‏)‏ مولاهم، ‏(‏القزويني‏)‏، نسبة إلى قزوين، مدينة مشهورة بعراق العجم، المتوفى بقزوين سنة ثلاث أو خمس وسبعين ومائتين‏.‏
وهي التي كملت بها الكتب الستة، والسنن الأربعة، بعد الصحيحين، واعتنى بأطرافها الحافظ ‏(‏ابن عساكر‏)‏ ثم ‏(‏المزي‏)‏ مع رجالها، ولم يذكر ‏(‏ابن الصلاح‏)‏ ‏(‏والنووي‏)‏ وفاته، كما لم يذكرا كتابه في الأصول‏.‏
 الكتب الخمسة
بل جعلاها خمسة فقط تبعا لمتقدمي أهل الأثر، وكثير من محققي متأخريهم، ولما رأى بعضهم كتابه كتابا مفيدا قوي النفع في الفقه، ورأى من كثرة زوائده على ‏(‏الموطأ‏)‏، أدرجه على ما فيه في الأصول، وجعلها ستة‏.‏
وأول من أضافه إلى الخمسة مكملا به الستة ‏(‏أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي المقدسي‏)‏ في أطراف الكتب الستة له، وكذا في شروط الأئمة الستة له، ثم ‏(‏الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي‏)‏ في ‏(‏الكمال في أسماء الرجال‏)‏، أي‏:‏ رجال الكتب الستة الذي هذبه ‏(‏الحافظ جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي‏)‏، بكسر الميم وتشديد الزاي المكسورة، نسبة إلى المزَّة، قرية بدمشق، فتبعهما على ذلك أصحاب الأطراف والرجال والناس، ومنهم من جعل السادس ‏(‏الموطأ‏)‏ ‏(‏كرزين بن معاوية العبدري‏)‏ في ‏(‏التجريد‏)‏، و‏(‏أثير الدين أبي السعادات المبارك بن محمد‏)‏، المعروف ‏(‏بابن الأثير الجزري الشافعي‏)‏ في ‏(‏جامع الأصول‏)‏‏.‏
وقال قوم من الحفاظ منهم ‏(‏ابن الصلاح‏)‏ و‏(‏النووي‏)‏ و‏(‏صلاح الدين العلائي‏)‏ و‏(‏الحافظ ابن حجر‏)‏‏:‏ لو جعل ‏(‏مسند الدارمي‏)‏ سادسا كان أولى‏.‏
 الكتب السبعة
ومنهم من جعل الأصول سبعة، فعد منها زيادة على الخمسة كلًا من ‏(‏الموطأ‏)‏ و‏(‏ابن ماجة‏)‏، ومنهم من أسقط ‏(‏الموطأ‏)‏، وجعل بدله ‏(‏سنن الدارمي‏)‏، والله أعلم‏.‏
ومنها كتب الأئمة الأربعة أرباب المذاهب المتبوعة‏:‏
وهي ‏(‏موطأ نجم الهدى‏)‏ إمام الأئمة، عالم المدينة ‏(‏أبي عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي‏)‏، نسبة إلى ‏(‏ذي أصبح‏)‏ من ملوك اليمن، ‏(‏المدني‏)‏ المتوفى بها سنة تسع وسبعين ومائة، وهي في الرتبة بعد ‏(‏مسلم‏)‏ على ما هو الأصح، ويذكر أن جميع مسائلها ثلاثة آلاف مسألة، وأحاديثها سبعمائة حديث، وعن مؤلفها فيها روايات كثيرة، أشهرها وأحسنها‏:‏ رواية ‏(‏يحيى بن كثير الليثي الأندلسي‏)‏، وإذا أطلق في هذه الأعصار ‏(‏موطأ مالك‏)‏ فإنما ينصرف لها‏.‏
وأكبرها رواية‏:‏ ‏(‏عبد الله بن مسلمة القعنبي‏)‏، ومن أكبرها وأكثرها‏:‏ زيادات رواية ‏(‏أبي مصعب أحمد بن أبي بكر القرشي الزهري‏)‏، قاضي المدينة، ومن جملتها رواية ‏(‏محمد بن الحسن الشيباني‏)‏، صاحب ‏(‏أبي حنيفة‏)‏ وفي ‏(‏موطئه‏)‏ أحاديث يسيرة ‏(‏ص 15‏)‏ يرويها عن غير ‏(‏مالك‏)‏، وأخرى زائدة على الروايات المشهورة، وهي أيضًا خالية عن عدة أحاديث ثابتة في سائر الروايات‏.‏
‏(‏ولأبي الحسن علي بن محمد بن خلف المعافري القروي القابسي‏)‏، نسبة إلى قابس مدينة بإفريقية بالقرب من المهدية، ‏(‏المالكي الضرير‏)‏، المتوفى بالقيروان، سنة ثلاث وأربعمائة، كتاب ‏(‏الملخص‏)‏ بكسر الخاء، كما ذكره صاحب ‏(‏تثقيف اللسان‏)‏، وكذلك سماه صاحبه، وتجوز قرائته بفتحها، وبالوجهين، ذكره ‏(‏عياض‏)‏ في ‏(‏فهرسته‏)‏، جمع فيه ما اتصل إسناده من حديث ‏(‏مالك‏)‏ في ‏(‏الموطأ‏)‏، رواية ‏(‏عبد الرحمن بن القاسم المصري‏)‏‏.‏
قال ‏(‏أبو عمرو الداني‏)‏‏:‏ وهو خمسمائة حديث وعشرون حديثا، وقال غيره‏:‏ هو على صغر حجمه جيد فيه بابه‏.‏
وشرع في شرحه ‏(‏شهاب الدين القاضي أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الخليل بن سعادة بن جعفر بن عيسى الخوَييّ‏)‏، نسبة إلى خُوَيّ، بلفظ التصغير لخوِّ، بلد مشهور من أعمال أذربيجان ‏(‏الشافعي الدمشقي‏)‏، فشرح منه خمسة عشر حديثا في مجلد، واخترمته المنية، فمات سنة ثلاث وتسعين وستمائة‏.‏
‏(‏ولأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي المالكي‏)‏ حافظ المغرب بل والمشرق، الشهير، المتوفى‏:‏ بشاطبة من بلاد الأندلس، سنة ثلاث وستين وأربعمائة، كتاب ‏(‏التقصي‏)‏ جمع فيه ما في ‏(‏الموطأ‏)‏ من الأحاديث المرفوعة، موصولة كانت أو منقطعة، مرتبة على شيوخ ‏(‏مالك‏)‏‏.‏
وله أيضًا كتاب في وصل ما فيها من المرسل والمنقطع والمعضل، قال‏:‏ وجميع مافيها من قوله بلغني، ومن قوله عن الثقة عنده مما لم يسنده أحد وستون حديثا، كلها مسندة من غير طريق ‏(‏مالك‏)‏ إلا أربعة لا تعرف، ثم ذكرها‏.‏
قال الشيخ ‏(‏صالح الفلاني‏)‏‏:‏ وقد رأيت ‏(‏لابن الصلاح‏)‏ تأليفا وصل هذه الأربعة فيه بأسانيده‏.‏
‏(‏ولأبي محمد عبد الله بن محمد بن فرحون اليعمري‏)‏ التونسي الأصل، المدني المولد والمنشأ، المالكي، المتوفى‏:‏ سنة تسع وستين وسبعمائة، ‏(‏الدر المخلص من التقصي والملخص‏)‏، جمع فيه أحاديث الكتابين المذكورين، وشرحه بشرح عظيم الفائدة في أربع مجلدات، سماه‏:‏ ‏(‏كشف الغطا في شرح ‏(‏ص 17‏)‏ مختصر الموطأ‏)‏‏.‏
‏(‏ولأبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد الغافقي الجوهري المصري المالكي‏)‏، المتوفى‏:‏ سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، كتاب ‏(‏مسند الموطأ‏)‏، وكتاب ‏(‏مسند ما ليس بالموطأ‏)‏، ذكره في ‏(‏الديباج‏)‏‏.‏
ومسند إمام الأئمة أيضًا، ركن الإسلام، ‏(‏أبي حنيفة النعمان بن ثابت الفارسي الكوفي‏)‏، فقيه العراق، المتوفى‏:‏ ببغداد، سنة خمسين، أو إحدى وخمسين ومائة، وله خمسة عشر مسندا، وأوصلها الإمام ‏(‏أبو الصبر أيوب الخلوتي‏)‏، في ثبته إلى سبعة عشر مسندا، كلها تنسب إليه لكونها من حديثه، وإن لم تكن من تأليفه‏.‏
وقد جمع بين خمسة عشر منها‏:‏
‏(‏أبو المؤيد محمد بن محمود بن محمد بن الحسن الخطيب الخوارزمي‏)‏ نسبة إلى خوارزم، بضم الخاء وكسر الراء، ناحية معلومة، المتوفى‏:‏ سنه خمس وخمسين وستمائة، في كتاب سماه‏:‏ ‏(‏جامع المسانيد‏)‏، رتبه على ترتيب أبواب الفقه، بحذف المعاد، وترك تكرير الإسناد‏.‏
واعتبر بعضهم منها‏:‏
ما خرجه ‏(‏أبو محمد عبد الله بن محمد بن يعقوب بن الحارث بن خليل الكلاباذي الحارثي السبذموني‏)‏، نسبة إلى سبذمون، قرية من قرى بخارى، على نصف فرسخ، المعروف‏:‏ بعبد الله الأستاذ، المتوفى‏:‏ سنة أربعين وثلاثمائة‏.‏
والذي اعتبره الحافظ ‏(‏ابن حجر‏)‏ في كتابه ‏(‏تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأربعة‏)‏، هو ما خرجه الإمام الزكي الحافظ ‏(‏أبو عبد الله الحسين بن محمد بن خسرو‏)‏، بضم الخاء وسكون المهملة، البلخي، المتوفى‏:‏ سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة‏.‏
ومسند عالم قريش، ومجدد الدين على رأس المائتين، أحد أقطاب الدنيا وأوتادها، ‏(‏أبي عبد الله محمد بن إدريس بن عباس بن عثمان بن شافع الشافعي القرشي المطلبي المكي‏)‏، نزيل مصر، المتوفى بها‏:‏ سنة أربع ومائتين، وليس هو من تصنيفه أيضًا، وإنما هو عبارة عن الأحاديث التي أسندها مرفوعها موقوفها‏.‏
ووقعت في مسموع ‏(‏أبي العباس محمد بن يعقوب بن يوسف بن معقل بن سنان الأصم الأموي‏)‏ مولاهم، ‏(‏المعقلي النيسابوري‏)‏، عن ‏(‏الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل المرادي‏)‏ مولاهم، ‏(‏المؤذن المصري‏)‏ صاحب ‏(‏الشافعي‏)‏ وراوية كتبه من كتابي ‏(‏الأم‏)‏ و‏(‏المبسوط‏)‏ ‏(‏للشافعي‏)‏، إلا أربعة أحاديث رواها‏(‏ص 19‏)‏ ‏(‏الربيع‏)‏ عن ‏(‏البويطي‏)‏ عن ‏(‏الشافعي‏)‏، التقطها بعض النيسابوريين، وهو ‏(‏أبو عمرو محمد بن جعفر بن محمد بن مطر المطري العدل النيسابوري الحافظ‏)‏، من شيوخ ‏(‏الحاكم‏)‏، من الأبواب ‏(‏لأبي العباس الأصم‏)‏ المذكور لحصول الرواية له بها عن ‏(‏الربيع‏)‏، وقيل‏:‏ جمعها ‏(‏الأصم‏)‏ لنفسه فسمى ذلك ‏(‏مسند الشافعي‏)‏، ولم يرتبه، فلذا وقع التكرار فيه في غير ما موضع، انظر ‏(‏فهرست الأمير‏)‏، و‏(‏شرح الإحياء‏)‏ في كتاب ‏(‏آداب الأخوة والصحبة‏)‏، ووفاة ‏(‏الربيع‏)‏ هذا سنة سبعين ومائتين، ‏(‏وأبي العباس الأصم‏)‏ سنة ست وأربعين وثلاثمائة، ‏(‏وأبي عمرو المطري‏)‏ سنة ستين وثلاثمائة‏.‏
ومسند الإمام الأوحد محي السنة ‏(‏أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني المروزي‏)‏، ثم البغدادي، المتوفى‏:‏ سنة إحدى وأربعين ومائتين، وكان يحفظ ألف ألف حديث، ومسنده هذا يشتمل على ثمانية عشر مسندا‏:‏
أولها‏:‏ مسند العشرة، وما معه، وفيه من زيادات ولده ‏(‏عبد الله‏)‏، ويسير من زيادات ‏(‏أبي بكر القطيعي‏)‏ الراوي عن ‏(‏عبد الله‏)‏، وقد اشتهر عند كثير من الناس أنه أربعون ألف حديث‏.‏
قال ‏(‏أبو موسى المديني‏)‏‏:‏ لم أزل أسمع ذلك من الناس حتى قرأته على ‏(‏أبي منصور بن رزيق‏)‏‏.‏ اهـ‏.‏
وكذا صرح بذلك الحافظ ‏(‏شمس الدين محمد بن علي الحسيني‏)‏ في ‏(‏التذكرة‏)‏، فقال‏:‏ عدة أحاديثه أربعون ألفا بالمكرر‏.‏
وقال ‏(‏ابن المنادي‏)‏‏:‏ أنه ثلاثون ألفا، والاعتماد على قوله دون غيره، وقد انتقاه من أكثر من سبعمائة ألف وخمسين ألف حديث، ولم يدخل فيه إلا ما يحتج به عنده؛ وتفضيل ‏(‏ابن الصلاح‏)‏ كتب السنن عليه منتقد، وبالغ بعضهم، فأطلق عليه اسم ‏(‏الصحة‏)‏، والحق أن فيه أحاديث كثيرة ضعيفة، وبعضها أشد في الضعف من بعض، حتى أن ‏(‏ابن الجوزي‏)‏ أدخل كثيرًا منها في موضوعاته، ولكن تعقبه في بعضها الحافظ ‏(‏أبو الفضل العراقي‏)‏، وفي سائرها الحافظ ‏(‏ابن حجر‏)‏ في ‏(‏القول المسدد في الذب عن مسند أحمد‏)‏، و‏(‏السيوطي‏)‏ في ذيله المسمى‏:‏ ‏(‏بالذيل الممهد على القول المسدد‏)‏، وحقق الأول منهما، نفي الوضع عن جميع أحاديثه، وأنه أحسن انتقاء وتحريرا من الكتب التي لم تلتزم الصحة في جمعها، قال‏:‏ وليست الأحاديث الزائدة فيه على ما في الصحيحين بأكثر ضعفا من الأحاديث الزائدة في ‏(‏سنن أبي داود‏)‏ و‏(‏الترمذي‏)‏ عليهما‏.‏
وقال غيره‏:‏ ما ضعف من ‏(‏ص 21‏)‏ أحاديثه أحسن حالا مما يصححه كثير من المتأخرين، وقد رتبه على الأبواب بعض الحفاظ الأصبهانيين، وكذا الحافظ ‏(‏ناصر الدين ابن رزيق‏)‏، وكذا بعض من تأخر عنه، ورتبه على حروف المعجم في أسماء المقلين، الحافظ ‏(‏أبو بكر بن المحب‏)‏‏.‏
ولولده ‏(‏أبي عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل البغدادي‏)‏، الحافظ، المتوفى‏:‏ سنة تسعين ومائتين، كتاب في زوائد مسنده هذا، وهو نحو من ربعه في الحجم، قيل‏:‏ أنه مشتمل على عشر آلاف حديث، وله أيضًا زوائد كتاب ‏(‏الزهد‏)‏ لأبيه، وللإمام الحافظ ‏(‏أبي بكر محمد بن الحافظ أبي محمد بن عبد الله المقدسي الحنبلي‏)‏، ترتيب مسند ‏(‏أحمد‏)‏ هذا كله على حروف المعجم، فهذه هي كتب الأئمة الأربعة، وبإضافتها إلى الستة الأولى تكمل الكتب العشرة التي هي أصول الإسلام، وعليها مدار الدين‏.‏
ومنها‏:‏
 كتب التزم أهلها فيها الصحة
من غير ما تقدم من ‏(‏الموطأ‏)‏ و‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏
منها‏:‏
صحيح ‏(‏أبي عبد الله‏)‏ و‏(‏أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة السلمي النيسابوري الشافعي‏)‏، شيخ ‏(‏ابن حبان‏)‏، المتوفى‏:‏ سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، ويعرف عند المحدثين بإمام الأئمة‏.‏
وصحيح ‏(‏أبي حاتم محمد بن حبان بن أحمد بن معاذ التميمي الدارمي البستي‏)‏، بضم الموحدة وإسكان السين وفوقية، نسبة إلى بست، بلد كبير من بلاد الغور بطرف خراسان، الشافعي، أحد الحفاظ الكبار، صاحب التصانيف العديدة، المتوفى‏:‏ ببست سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، وهو المسمى‏:‏ ‏(‏بالتقاسيم والأنواع‏)‏، في خمس مجلدات، وترتيبه مخترع، ليس على الأبواب، ولا على المسانيد، والكشف منه عسر جدًا‏.‏
وقد رتبه بعض المتأخرين على الأبواب ترتيبا حسنا، وهو الأمير ‏(‏علاء الدين أبو الحسن علي بن بلبان بن عبد الإله الفارسي الحنفي‏)‏، الفقيه النحوي، المتوفى‏:‏ بالقاهرة سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، وسماه‏:‏ ‏(‏الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان‏)‏، كما أنه رتب ‏(‏معجم الطبراني الكبير‏)‏ على الأبواب أيضًا‏.‏
و‏(‏صحيح ابن حبان‏)‏ هذا موجود الآن بتمامه بخلاف ‏(‏صحيح ابن خزيمة‏)‏، فقد عدم أكثره، كما قاله ‏(‏السخاوي‏)‏‏:‏ وقد قيل أن أصح من صنف في الصحيح بعد الشيخين، ‏(‏ابن خزيمة‏)‏، ‏(‏فابن حبان‏)‏‏.‏ اهـ‏.‏
وصحيح ‏(‏أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه الحاكم الضبي الطهماني النيسابوري‏)‏، المعروف‏:‏ ‏(‏بابن البيِّع‏)‏، بوزن قيم، صاحب التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها، ككتاب ‏(‏الأكليل‏)‏، وكتاب ‏(‏المدخل إليه‏)‏ و‏(‏تاريخ نيسابور‏)‏، و‏(‏فضائل الشافعي‏)‏ وغير ذلك، المتوفى‏:‏ بنيسابور سنة خمس وأربعمائة، وهو المعروف ‏(‏بالمستدرك على كتاب الصحيحين‏)‏ مما لم يذكراه وهو على شرطهما، أو شرط أحدهما، أو لا على شرط واحد منهما، وهو متساهل في التصحيح، واتفق الحفاظ على أن تلميذه ‏(‏البيهقي‏)‏ أشد تحريا منه‏.‏
وقد لخص مستدركه هذا، الحافظ شمس الدين ‏(‏أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن ‏(‏ص 23‏)‏ قيماز التركماني‏)‏، الفارقي الأصل، ‏(‏الذهبي‏)‏ نسبة إلى الذهب، كما في ‏(‏التبصير‏)‏، الدمشقي الشافعي، المتوفى‏:‏ بدمشق، سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، وتعقب كثيرًا منه بالضعف والنكارة أو الوضع، وقال في بعض كلامه‏:‏ أن العلماء لا يعتدون بتصحيح ‏(‏الترمذي‏)‏ ولا ‏(‏الحاكم‏)‏، وذكر له ‏(‏ابن الجوزي‏)‏ في ‏(‏موضوعاته‏)‏ ستين حديثا أو نحوها، ولكن انتصر له الحفاظ في أكثرها، وفي التعقبات‏:‏ أنه جرد بعض الحفاظ منه مائة حديث موضوعة في جزء، و‏(‏لجلال الدين السيوطي‏)‏ ‏(‏توضيح المدرك في تصحيح المستدرك‏)‏، لم يكمل، ولخصه أيضًا أعني ‏(‏المستدرك‏)‏، ‏(‏برهان الدين الحلبي‏)‏‏.‏
وزعم ‏(‏أبو سعد الماليني‏)‏‏:‏ أنه ليس فيه حديث على شرطهما، ورده ‏(‏الذهبي‏)‏‏:‏ بأنه غلو وإسراف، بل فيه جملة وافرة على شرطهما، وأخرى كبيرة على شرط أحدهما، ولعل مجموع ذلك نحو نصف الكتاب، وفيه نحو الربع مما صح سنده وإن كان فيه علة، وما بقي، وهو نحو الربع، فهو مناكير وواهيات لا تصح، وفي بعض ذلك موضوعات، ويقال‏:‏ أن السبب في التساهل الواقع فيه أنه صنفه أواخر عمره، وقد حصلت له غفلة وتغير، أو أنه لم يتيسر له تحريره وتنقيحه، ويدل له أن تساهله في قدر الخمس الأول منه قليل جدًا بالنسبة لباقيه‏.‏
وقد قال ‏(‏الحافظ‏)‏‏:‏ وجدت قريبا من نصف الجزء الثاني من تجزئة ستة من ‏(‏المستدرك‏)‏؛ إلى هنا انتهى إملاء ‏(‏الحاكم‏)‏‏.‏
قال‏:‏ وما عدا ذلك من الكتاب لا يؤخذ عنه إلا بطريق الإجازة، والتساهل في القدر المملى قليل جدًا بالنسبة إلى ما بعده، وقد قال ‏(‏الحازمي‏)‏‏:‏ ‏(‏ابن حبان‏)‏ أمكن في الحديث من ‏(‏الحاكم‏)‏، وقال ‏(‏العماد ابن كثير‏)‏‏:‏ قد التزم ‏(‏ابن خزيمة‏)‏ و‏(‏ابن حبان‏)‏ الصحة، وهما خير من ‏(‏المستدرك‏)‏ بكثير، وأنظف أسانيد ومتونا؛ وقال غيرهما‏:‏ ‏(‏صحيح ابن خزيمة‏)‏ أعلى مزية من ‏(‏صحيح ابن حبان‏)‏، و‏(‏صحيح ابن حبان‏)‏ أعلى من ‏(‏الحاكم‏)‏، وهو مقارب ‏(‏للحاكم‏)‏ في التساهل لأنه غير متقيد بالمعدّلين، بل ربما يخرج للمجهولين، لا سيما ومذهبه إدراج الحسن في الصحيح، لكن هذا كله اصطلاح له ولا مشاحة فيه، على أن في ‏(‏صحيح ابن خزيمة‏)‏ أيضًا أحاديث محكوما منه بصحتها، وهي لا ترتقي عن درجة الحسن، بل وفيما صححه ‏(‏الترمذي‏)‏ من ذلك أيضًا جملة مع أنه ممن يفرق بين الصحيح والحسن، وحينئذ فلا بد من النظر في أحاديث كلٍ ليحكم على كل واحد منها بما يليق به‏.‏ والله أعلم‏.‏
وكتاب ‏(‏الإلزامات‏)‏ ‏(‏لأبي الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي الدارقطني‏)‏، نسبة إلى دار القطن، محلة كبيرة ببغداد، البغدادي، الشافعي، صاحب ‏(‏السنن‏)‏ و‏(‏العلل‏)‏ وغيرهما، أمير المؤمنين في الحديث، ولم ير مثل نفسه، المتوفى‏:‏ ببغداد سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، وهو أيضًا ‏(‏كالمستدرك على الصحيحين‏)‏، جمع فيه ما وجده على شرطهما من الأحاديث، وليس بمذكور في كتابيهما، وألزمهما ذكره، وهو مرتب على المسانيد في مجلد لطيف‏.‏
وكتاب ‏(‏المستدرك‏)‏ عليهما أيضًا للحافظ ‏(‏أبي ذر عبد‏)‏، بغير إضافة، ‏(‏ابن أحمد بن محمد بن عبد الله عفير الأنصاري الهروي‏)‏، نسبة إلى هراة، إحدى كراسي مملكة خراسان، فإنها مملكة عظيمة، وكراسيها أربع‏:‏ نيسابور، ومرو، وبلخ، وهراة، المالكي، نزيل مكة، ذي التصانيف الكثيرة والزهد والورع والعبادة، المتوفى على ما هو‏(‏ص 25‏)‏ الصواب‏:‏ سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، كالمستخرج على كتاب ‏(‏الدارقطني‏)‏ في مجلد لطيف أيضًا‏.‏
وصحيح الحافظ ‏(‏أبي حامد أحمد بن محمد بن الحسن النيسابوري‏)‏، المعروف‏:‏ ‏(‏بابن الشرقي‏)‏، من تلاميذ ‏(‏مسلم‏)‏، المتوفى‏:‏ سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، ذكره ‏(‏الذهبي‏)‏ في ‏(‏التذكرة‏)‏، و‏(‏التاج‏)‏ في ‏(‏طبقاته‏)‏، وعبارة ‏(‏التاج‏)‏‏:‏ صنف الصحيح، وحج مرات اهـ‏.‏ وهو غير مشهور، وربما يكون مخرجا على ‏(‏صحيح مسلم‏)‏‏.‏
وكتاب ‏(‏الأحاديث الجياد المختارة مما ليس في الصحيحين أو أحدهما‏)‏، ‏(‏لضياء الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد أحمد عبد الرحمن السعدي المقدسي‏)‏ ثم الدمشقي، الصالحي، الحنبلي، الحافظ الثقة، الجبل الزاهد الورع، المتوفى‏:‏ سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وهو مرتب على المسانيد على حروف المعجم، لا على الأبواب، في ستة وثمانين جزءا، ولم يكمل، التزم فيه الصحة، وذكر فيه أحاديث لم يسبق إلى تصحيحها، وقد سلم له فيه إلا أحاديث يسيره جدًا تعقبت عليه‏.‏
وذكر ‏(‏ابن تيمية‏)‏ و‏(‏الزركشي‏)‏ وغيرهما‏:‏ أن تصحيحه أعلا مزية من تصحيح ‏(‏الحاكم‏)‏‏.‏
وفي ‏(‏اللئالي‏)‏ ذكر ‏(‏الزركشي‏)‏ في تخريج ‏(‏الرافعي‏)‏‏:‏ أن تصحيحه أعلا مزية من تصحيح ‏(‏الحاكم‏)‏، وأنه قريب من تصحيح ‏(‏الترمذي‏)‏ و‏(‏ابن حبان‏)‏‏.‏ اهـ‏.‏
وذكر ‏(‏ابن عبد الهادي‏)‏ في ‏(‏الصارم المنكي‏)‏ نحوه، وزاد‏:‏ فإن الغلط فيه قليل، ليس هو مثل ‏(‏صحيح الحاكم‏)‏، فإن فيه أحاديث كثيرة، يظهر أنها كذب موضوعة، فلهذا انحطت درجته عن درجة غيره‏.‏ اهـ‏.‏
وكتاب ‏(‏المنتقى‏)‏‏.‏ أي‏:‏ المختار من السنن المسندة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الأحكام، ‏(‏لأبي محمد عبد الله بن علي بن الجارود النيسابوري‏)‏ الحافظ، المجاور بمكة، المتوفى‏:‏ سنة ست أو سبع وثلاثمائة، وهو ‏(‏كالمستخرج‏)‏ على ‏(‏صحيح ابن خزيمة‏)‏، في مجلد لطيف، وأحاديثه تبلغ نحو الثمانمائة، وتتبعت فلم ينفرد عن ‏(‏الشيخين‏)‏ منها إلا بيسير، وله شرح يسمى ‏(‏بالمرتقى في شرح المنتقى‏)‏ ‏(‏لأبي عمرو الأندلسي‏)‏‏.‏
وكتاب ‏(‏المنتقى‏)‏ ‏(‏لأبي محمد قاسم بن أصبغ بن محمد يوسف البياني‏)‏ نسبة إلى بيانة كجبانة كوره بالأندلس بينها وبين قرطبة ثلاثون ميلا ‏(‏القرطبي المالكي‏)‏ الحافظ ذي التصانيف المتوفى بقرطبة سنة أربعين وثلاثمائة وهو على نحو كتاب ‏(‏المنتقى‏)‏ ‏(‏لابن الجارود‏)‏ وكان قد فاته السماع منه ووجده قد مات فألفه على أبواب كتابه بأحاديث خرجها عن شيوخه قال ‏(‏أبو محمد بن حزم‏)‏ وهو خير انتقاء منه‏.‏
وصحيح الحافظ ‏(‏أبي علي سعيد بن عثمان بن سعيد بن السكن البغدادي المصري‏)‏‏.‏ نزيل مصر، المتوفى بها‏:‏ سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة‏.‏ ويسمى ‏(‏بالصحيح المنتقى‏)‏‏.‏ و‏(‏بالسنن الصحاح‏)‏ المأثورة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏
لكنه كتاب محذوف الأسانيد‏.‏ جعله أبوابا في جميع ما يحتاج إليه من الأحكام، ضمنه ما صح عنده من السنن المأثورة، قال‏:‏ وما ذكرته في كتابي هذا مجملا فهو مما أجمعوا على صحته، وما ذكرته بعد ذلك مما يختاره أحد من الأئمة الذين سميتهم‏.‏ فقد بينت حجته في قبول ما ذكره، ونسبته إلى اختياره دون غيره‏.‏ وما ذكرته مما ينفرد به أحد من أهل النقل للحديث فقد بينت علته، ودللت على انفراده دون غيره، انظر ‏(‏شفاء السقام‏)‏ ‏(‏للتقي السبكي‏)‏‏.‏
والكتب المخرجة على ‏(‏الصحيحين‏)‏ أوأحدهما‏.‏
‏(‏ص 27‏)‏ وهي كثيرة‏:‏
‏(‏كمستخرج‏)‏ الحافظ ‏(‏أبي بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الإسماعيلي الجرجاني‏)‏، إمام أهل جرجان، الشافعي، المتوفى‏:‏ سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة، وقد قال الذهبي فيه‏:‏ ابتهرت بحفظه، وجزمت بأن المتأخرين على إياس من أن يلحقوا المتقدمين في الحفظ والمعرفة‏.‏ اهـ‏.‏
وله تصانيف منها‏:‏
‏(‏المعجم‏)‏ و‏(‏المسند الكبير‏)‏‏.‏
والحافظ ‏(‏أبي أحمد محمد بن أبي حامد أحمد بن الحسين بن القاسم بن الغطريف بن الجهم الغطريفي‏)‏، نسبة إلى جده ‏(‏غطريف، العبدي الجرجاني الرباطي‏)‏، رفيق ‏(‏أبي بكر الإسماعيلي‏)‏‏.‏ المتوفى‏:‏ سنة سبع وسبعين وثلاثمائة‏.‏
والحافظ ‏(‏أبي عبد الله محمد بن العباس بن أحمد بن محمد بن عصيم بن بلال بن عصم‏)‏، بضم فسكون‏.‏ المعروف‏:‏ ‏(‏بابن أبي ذهل‏.‏ الضبي العصمي الهروي‏)‏‏.‏ المتوفى‏:‏ سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة‏.‏
والحافظ ‏(‏أبي بكر أحمد بن موسى بن مردويه الأصبهاني‏)‏‏.‏ صاحب ‏(‏التاريخ‏)‏ و‏(‏التفسير المسند‏)‏ أيضًا‏.‏ المتوفى‏:‏ سنة ست عشر وأربعمائة‏.‏ وهو ‏(‏ابن مردويه‏)‏ الكبير‏.‏ وأما الصغير‏.‏ فهو حفيده محدث أصبهان المفيد الحافظ ‏(‏أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن موسى بن مردويه الأصبهاني‏)‏‏.‏ لم يلحق جده‏.‏ توفي‏:‏ سنة ثمان وتسعين وأربعمائة‏.‏ الأربعة على ‏(‏البخاري‏)‏‏.‏
والحافظ ‏(‏أبي عوانة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن يزيد الأسفراييني‏)‏‏.‏ بفتح الهمزة وقيل‏:‏ بكسرها‏.‏ نسبة إلى أسفرايين بليدة حصينة من نواحي نيسابور على منتصف الطريق من جرجان، النيسابوري الأصل، الشافعي، أحد الحفاظ الجوالين والمحدثين المكثرين، المتوفى‏:‏ بأسفرايين، سنة ست عشرة وثلاثمائة، وله فيه زيادات عدة‏.‏
والحافظ ‏(‏أبي محمد قاسم بن أصبغ البياني القرطبي‏)‏؛ وتقدمت وفاته‏.‏
والحافظ ‏(‏أبي جعفر أحمد بن حمدان بن علي بن عبد الله بن سنان الحيري‏)‏ نسبة إلى الحيرة، محلة كبيرة مشهورة بنيسابور، النيسابوري، المتوفى‏:‏ قبل ‏(‏ابن خزيمة‏)‏ بأيام سنة إحدى عشرة وثلاثمائة‏.‏
والحافظ ‏(‏أبي بكر محمد بن محمد بن رجاء النيسابوري الأسفراييني‏)‏، وهو متقدم، يشارك ‏(‏مسلمًا‏)‏ في أكثر شيوخه، توفي‏:‏ سنة ست وثمانين ومائتين‏.‏
والحافظ ‏(‏أبي بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن زكريا الشيباني النيسابوري‏)‏ محدثها ‏(‏الجوزقي‏)‏، وجوزق قرية من قرى نيسابور، المتوفى‏:‏ سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة‏.‏
والحافظ ‏(‏أبي حامد أحمد بن محمد بن شارك الهروي الشاركي، الشافعي‏)‏، المتوفى‏:‏ بهراة، سنة خمس وخمسين وثلاثمائة‏.‏
والحافظ ‏(‏أبي الوليد حسان بن محمد بن أحمد بن هارون القرشي الأموي القزويني النيسابوري الشافعي‏)‏ المتوفى‏:‏ سنة أربع وأربعين وثلاثمائة‏.‏
والحافظ ‏(‏أبي عمران موسى بن العباس بن محمد الجويني‏)‏ نسبة إلى جوين، كورة على طريق القوافل من بسطام إلى نيسابور، النيسابوري، أحد الرحالين، المتوفى‏:‏ بجوين، سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة‏.‏
والحافظ ‏(‏أبي النصر محمد بن محمد بن يوسف الطوسي الشافعي‏)‏، المتوفى‏:‏ سنة أربع وأربعين وثلاثمائة‏.‏
والحافظ ‏(‏أبي سعيد أحمد ابن أبي بكر محمد بن الحافظ الكبير أبي عثمان سعيد بن إسماعيل الحيري النيسابوري‏)‏، المستشهد بطرسوس، سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة‏.‏
والحافظ ‏(‏أبي الفضل أحمد بن سلمة النيسابوري البزار‏)‏، رفيق ‏(‏مسلم‏)‏ في الرحلة إلى بلخ وإلى البصرة، المتوفى‏:‏ سنة ست وثمانين ومائتين، قال الذهبي‏:‏ له مستخرج كهيئة ‏(‏صحيح مسلم‏)‏، وقال الشيخ ‏(‏أبو القاسم النصراباذي‏)‏‏:‏ ‏(‏ص 29‏)‏ رأيت ‏(‏أبا علي الثقفي‏)‏ في النوم، فقال لي‏:‏ عليك ‏(‏بصحيح أحمد بن سلمة‏)‏‏.‏
والحافظ ‏(‏أبي محمد أحمد بن محمد بن إبراهيم الطوسي البلاذري‏)‏ الواعظ، المتوفى‏:‏ سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، قال الذهبي‏:‏ خرج صحيحا على وضع كتاب ‏(‏مسلم‏)‏، الاثنتا عشرة كلها على ‏(‏مسلم‏)‏‏.‏
والحافظ ‏(‏أبي نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران الأصفهاني‏)‏، نسبة إلى أصبهان مدينة عظيمة مشهورة من أعلام المدن وأعيانها، الصوفي، الشافعي، صاحب التصانيف، المتوفى‏:‏ بأصبهان، سنة ثلاثين وأربعمائة‏.‏
والحافظ ‏(‏أبي عبد الله محمد بن يعقوب بن يوسف الشيباني النيسابوري‏)‏ المعروف‏:‏ ‏(‏بابن الأخرم‏)‏، المتوفى‏:‏ سنة أربع وأربعين وثلاثمائة‏.‏
والحافظ ‏(‏أبي ذر الهروي‏)‏، وتقدمت وفاته‏.‏
والحافظ ‏(‏أبي محمد الحسن ابن أبي طالب محمد بن الحسن بن علي البغدادي‏)‏، المعروف‏:‏ ‏(‏بالخلال‏)‏ بفتح الخاء المعجمة وشد اللام، نسبة إلى الخل المأكول، المتوفى‏:‏ سنة تسع وثلاثين وأربعمائة‏.‏
والحافظ ‏(‏أبي علي الحسين بن محمد بن أحمد بن محمد بن الحسين بن عيسى بن ما سرجس الماسرجسي‏)‏ نسبة إلى جده ‏(‏ماسرجس‏)‏ المذكور، كان نصرانيا فأسلم على يد ‏(‏عبد الله بن المبارك النيسابوري‏)‏، المتوفى‏:‏ سنة خمس وستين وثلاثمائة‏.‏
والحافظ ‏(‏أبي مسعود سليمان بن إبراهيم الأصبهاني المليحي‏)‏، المتوفى‏:‏ سنة ست وثمانين‏(‏ص 30‏)‏ وأربعمائة‏.‏
والحافظ ‏(‏أبي بكر أحمد بن علي بن محمد بن إبراهيم بن َمنْجُوَيْهْ الأصبهاني البرْدي‏)‏، نزيل نيسابور، المتوفى‏:‏ سنة ثمان وعشرين وأربعمائة‏.‏
والحافظ ‏(‏أبي بكر أحمد بن عبدان بن محمد بن الفرج الشيرازي‏)‏، محدث الأهواز، المتوفى‏:‏ سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة‏.‏
والحافظ ‏(‏أبي بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي البرقاني‏)‏ نسبة إلى برقانة قرية من نواحي خوارزم، الشافعي، المتوفى‏:‏ ببغداد، سنة خمس وعشرين وأربعمائة، التسعة على كل منهما‏.‏
وهذا بخلاف الكتب المخرجة على غيرهما ‏(‏كالسنن‏)‏، فإنه لا يحكم بصحة جميعها، ‏(‏كمستخرج‏)‏ ‏(‏قاسم بن أصبغ‏)‏، و‏(‏أبي بكر بن منجويه الأصفهاني‏)‏ المتقدمين، و‏(‏أبي عبد الله محمد بن عبد الملك بن أيمن بن فرج القرطبي‏)‏، ‏(‏مسند الأندلس‏)‏، المتوفى‏:‏ سنة ثلاثين وثلاثمائة، الثلاثة على ‏(‏سنن أبي داود‏)‏‏.‏
ثم اختصر ‏(‏قاسم بن أصبغ‏)‏ كتابه، وسماه‏:‏ ‏(‏المجتنى‏)‏، بالنون، فيه من الحديث المسند ألفان وأربعمائة وتسعون حديثا، في سبعة أجزاء‏.‏
و‏(‏مستخرج‏)‏ ‏(‏أبي بكر بن منجويه‏)‏ أيضًا، و‏(‏أبي علي الحسن بن علي بن نصر الخراساني الطوسي‏)‏، شيخ ‏(‏أبي حاتم الرازي‏)‏، المتوفى‏:‏ سنة ثنتي عشرة وثلاثمائة، كل منهما على ‏(‏الترمذي‏)‏، وقد شارك الثاني منهما ‏(‏الترمذي‏)‏ في كثير من شيوخه‏.‏
و‏(‏مستخرج‏)‏ ‏(‏أبي نعيم الأصفهاني‏)‏ على ‏(‏التوحيد‏)‏ ‏(‏لابن خزيمة‏)‏، وأملى الحافظ ‏(‏أبو الفضل العراقي‏)‏، وتأتي وفاته، على ‏(‏المستدرك‏)‏ ‏(‏للحاكم‏)‏ مستخرجا لم يكمل؛ والمستخرج عندهم أن يأتي المصنف إلى الكتاب، فيخرج أحاديثه بأسانيد لنفسه من غير طريق صاحب الكتاب، فيجتمع معه في شيخه أو في من فوقه ولو في الصحابي، مع رعاية ترتيبه ومتونه وطرق أسانيده، وشرطه أن لا يصل إلى شيخ أبعد حتى يفقد سندا يوصله إلى الأقرب، إلا لعذر من علو أو زيادة مهمة، وربما أسقط المستخرج أحاديث لم يجد له بها سندا يرتضيه، وربما ذكرها من طريق صاحب الكتاب‏.‏ ‏(‏ص 32‏)‏
تعريف المستخرج
وقد يطلق المستخرج عندهم على كتاب استخرجه مؤلفه، أي‏:‏ جمعه من كتب مخصوصة، ‏(‏كمستخرج‏)‏ الحافظ ‏(‏أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده العبدي‏)‏ مولاهم، الأصفهاني، المتوفى‏:‏ سنة سبعين وأربعمائة، جمعه من كتب الناس، واستخرجه للتذكرة، وسماه‏:‏ ‏(‏المستخرج من كتب الناس للتذكرة والمستطرف من أحوال الناس للمعرفة‏)‏، جمع فيه فأوعى، ومن تصانيفه‏:‏ ‏(‏المسند‏)‏، و‏(‏كتاب الوفيات‏)‏، و‏(‏جزء في أكل الطين‏)‏ وغير ذلك، وكثيرًا ما ينقل عن ‏(‏مستخرجه‏)‏ المذكور الحافظ ‏(‏ابن حجر‏)‏ في كتبه، فيقول‏:‏ ذكر ‏(‏ابن منده‏)‏ في ‏(‏مستخرجه‏)‏، وتارة يقول في ‏(‏تذكرته‏)‏ والله أعلم‏ .‏

                                                     سامى العقيبى