الأحد، 22 أبريل 2012

منظومة البيقونية

أَبْدَأُ بِالحَمْـــــدِ مُصَلِّيَـــاً عَلَى مُحَمَّدٍ خَيْرِ نَبِيٍّ أُرْسِلا َ

وَذِي من أقْسَامِ الحَدِيثِ عِــدَّهْ وَكُلُّ وَاحِدٍ أَتَى وَحَدَّه ْ

أَوَّلُهَا الصَّحِيحُ وَهْوَ مَا اتَّصــل إسْنَادُهُ وَلَمْ يَشُذَّ أَوْ يُعَلْ

يَرْوِيهِ عَدْلٌ ضَابِــــطٌ عَنْ مِثْلِه ِ مُعْتَمَدٌ فِي ضَبْطِهِ وَنَقْلِه

وَالحَسَن المَعْرُوفُ طُرْقاً وَغَدَتْ رِجَالُهُ لاَ كَالصَّحِيحِ اشْتَهَرَتْ

وَكُلُّ مَا عَنْ رُتْبَةِ الحُسْنِ قَصرْ فَهْوَالضَّعِيفُ وَهْوَ أَقْسَاماً كَثُرُ

وَمَا أُضِيفَ لَلنَّبِــــــي المَرْفُوعُ وَمَا لِتَابِعٍ هُوَالمَقْطُوعُ

وَالمُسْنَدُ المتَّصِلُ الإسْـــنَاد مِنْ رَاوِيهِ حَتَّى المُصْطَفَى وَلَمْ يَبِنْ

وَمَا بِسَمْعِ كُلِّ رَاوٍ يَتَّصِــــل إسْنَادُهُ لِلْمُصْطَفَى فَالْمُتَّصِل

مُسَلْسَلٌ قُلْ مَا عَلَى وَصْفٍ أَتَى مِثْلُ أَمَا وَاللهِ أَنْبَانِي الْفَتَى

كَذَاكَ قَدْ حَدَّثَنِيهِ قَائمـــــــا أَوْ بَعْدَ أَنْ حَدَّثَنِي تَبَسَّما

عَزِيزُ مَـــــرْوِي اثْنَيْنِ أوْ ثَلاَثَهْ مَشْهُورُ مَـــــرْوِي فوْقَ مَا ثَلاَثَهْ

مُعَنْعَنٌ كَعَنْ سَــعِيدٍ عَنْ كَرَمْ وَمُبْهَمٌ مَا فِيهِ رَاوٍ لَمْ يُسَمْ

وَكُلُّ مَا قَلَّــتْ رِجَالُهُ عَلاَ وَضِدُهُ ذَاكَ الَّذِي قَدْنَزَلاَ

وَمَا أَضَفْتَهُ إِلَى الأَصْحَابِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ فَهْوَمَوْقُوفٌ زُكِنْ

وَمُرْسَلٌ مِنْهُ الصِّحَابِيُّ سَـقَطْ وَقُلْ غَرِيبٌ مَا رَوَى رَاوٍ فَقَطْ

وَكُلُّ مَا لَمْ يَتَّصِــلْ بِحَـــــال ِ إسْنَادُهُ مُنْقَطِعُ الأَوْصَال

والمُعْضل الساقِط مِنه اثنـــــانِ وما أتى مُدلساً نوعانِ

الأَوَّلُ الاسْقَاطُ لِلشَّــــيْخِ وَأَنْ يَنْقُلَ عَمَّنْ فَوْقَهُ بِعَنْ وَأَنْ

وَالثَّانِ لاَ يُسقطُهُ لَكِنْ يَصِــفْ أَوْصَافَهُ بِمَا بِهِ لاَ يَنْعَرِفْ

وَمَا يُخَـــالِفْ ثِقَةٌ بِهِ المــــَلاَ فَالشَّاذ والمَقْلُوبُ قِسْمانِ تَلاَ

إبْدَالُ رَاوٍ مَا بِرَاوٍ قِسْــــــمُ وَقَلْبُ إسْنَادٍ لمَتْنٍ قِسْــــــمُ

وَالْفَــــرْدُ مَا قَيَّدْتَـــهُ بِثِقــةِ أَوْ جَمْعٍ أوْ قَصْرٍ عَلَى رِوَايَةِ

وَمَا بِعِلَّةٍ غُمُوضٍ أَوْ خَفَـــــا مُعَلَّلٌ عِنْدَهُمُ قَدْ عُرِفا

وَذُو اخْتِلافِ سَنَدٍ أَوْ مَتْــنِ مُضْطَرِبٌ عِنْدَ أُهَيْلِ الْفَنِّ

وَالمُدْرَجَاتُ فِي الحَدِيثِ مَا أَتَتْ مِنْ بَعْض أَلْفَاظِ الرُّوَاةِ اتَّصَلَتْ

وَمَا رَوَى كُلُّ قَرِينٍ عَنْ أَخِهْ مُدّبَّجٌ فَأَعْرِفْهُ حَقّاً وَأَنْتَخِهْ

مُتَّفِقٌ لَفْظاً وَخَطاً مُتَّفِقْ وَضِدُّهُ فِيمَا ذَكَرْنَا المُفْتَرِقْ

مُؤْتَلِفٌ مُتَّقِقُ الخَطِّ فَقَطْ وَضِدُّهُ مُخْتَلِفُ فَاخْشَ الْغَلَطْ

وَالمُنْكَرُ الْفَرْدُ بِهِ رَاوٍ غَدَا تَعْدِيلُهُ لاَ يَحْمِلُ التَّفَرُّدَا

مَتْرُوكُهُ مَا وَاحِدٌ بِهِ انْفَرَدْ وَأَجْمَعُوا لِضَعْفِهِ فَهْوَ كَرَدْ

وَالكَذِبُ المُخْتَلَقُ المَصْنُوعُ عَلَى النَّبِي فَذلِكَ المَوْضُوعُ

وَقَدْ أَتَتْ كَالجَوْهَرِ المَكْنُونِ سَمَّيْتُهَا مَنْظُومَةَ الْبَيْقُونِي

فَوْقَ الثَّلاَثِينَ بِأَرْبَعٍ أَتَتْ أَقْسَامُهَا تَمَّتْ بِخَيْرٍ خُتِمَتْ






الجمعة، 20 أبريل 2012

الاسراء والمعراج واصح ما ورد فيه عن الثقات

  روى البخاري رضي الله عنه بسنده:

عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول:" لماذا كذبتني قريش قمت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته وانا أنظر اليه".

زاد  في رواية: " لما كذبتني قريش حين أسري بي الى بيت المقدس.." نحوه.

وعن أبي هريرة: ( أتى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ليلة أسري به بإيلياء بقدحين من خمر ولبن، فنظر اليهما، فأخذ اللبن. قال جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك).

عن أنس بن مالك بن صعصعة رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حدثه عن ليلة أسري به قال: " بينما انا في الحطيم ـوربما قال في الحجر ـ مضطجعا، إذ أتاني آت فقد ـ قال: وسمعته يقول: فشق ـ ما بين هذه الى هذه ـ فقلت للجارود وهو الى جنبي: ما يعني به؟ قال: من ثغرة نحره الى شعرته. وسمعته يقول: من قصه الى شعرته ـ فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب ملؤه إيمانا، فغسل قلبي ثم، حشى، ثم أعيد. ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار، أبيض فقال له الجارود، وهو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم ـ يضع خطوه عند أقصى طرفه، فحملت عليه.

  فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل اليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، ففتح. فلما خلصت، فإذا فيها آدم. فقال: هذا أبوك آدم، فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد السلام ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح.

  ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح. قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: و قد أرسل اليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء. ففتح، فلما خلصت إذا بيحيى وعيسى وهما ابنا خالة. قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما. فسلمت فردا. ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.

  ثم صعد بي الى السماء الثالثة، فاستفتح. قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل اليه؟ قال: نعم قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، ففتح. فلما خلصت إذا يوسف. قال: هذا يوسف فسلم عليه فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.

  ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة، فاستفتح. قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: أوقد أرسل اليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء. ففتح، فلما خلصت فإذا إدريس، قال: هذا إدريس فسلم عليه. فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.

  ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة، فاستفتح. قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قيل: وقد أرسل اليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء. فلما خلصت، فإذا هارون. قال: هذا هارون فسلم عليه. فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.

  ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة، فاستفتح قيل من هذا؟ قال: جبريل قيل: من معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل اليه؟ قال: نعم. قال: مرحبا به فنعم المجيء جاء. فلما خلصت فإذا موسى. قال: هذا موسى فسلم عليه. فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح. فلما تجاوزت بكى، قيل: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي، يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي.

  ثم صعد بي الى السماء السابعة، فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث اليه؟ قال: نعم، قال: مرحبا به ونعم المجيء جاء. فلما خلصت، فإذا إبراهيم. قال: هذا أبوك فسلم عليه. قال: فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح.

  ثم رفعت الى سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان، فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات.
  
ثم رفع لي البيت المعمور ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك.

 ثم فرضت عليّ الصلاة: حمسين صلاة كل يوم، فرجعت، فمررت على موسى، فقال: بما أمرت؟ قلت: أمرت بخمسين صلاة كل يوم. قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك. وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع الى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. فرجعت، فوضع عني عشرا. فرجعت الى موسى، فقال مثله. فرجعت فوضع عني عشرا. فرجعت الى موسى فقال مثله. فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم فرجعت الى موسى فقال: بما أمرت؟ قلت بخمس صلوات كل يوم. قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائل أشد المعالجة، فارجع الى ربك، فاسأله التخفيف لأمتك. قال: سألت ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم قال: فلما جاوزت، نادى مناد: أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي.

وفي رواية:" بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان ـ وذكر، يعني رجلا بين الرجلين ـ فأتيت بطست من ذهب ملآن حكمة وإيمانا. فشق من النحر الى مراق البطن ثم غسل البطن بماء زمزم، ثم ملئ حكمة وإيمانا.."

  ثم ساق نحوه. وحين ذكر البيت المعمور قال:" فسألت جبريل فقال: يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا اليه آخر ما عليهم. ورفعت لي سدرة المنتهى، فإذا نبقها كأنه قلال هجر، وورقها كأنه آذان الفيول.." وقال في آخره:" فنودي: إني قد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، وأجزي الحسنة عشرا".

وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{ وما جعلنا الرؤيا التي أريناك الا فتنة للناس}. قال: هي رؤيا عين، أريها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليلة أسري به الى بيت المقدس. قال: والشجرة الملعونة في القرآن هي شجرة الزقوم.

وعن أنس بن مالك قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال:

  " فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل، ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا، فأفرغه في صدري ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي الى السماء الدنيا. فلما جئت الى السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء: افتح. قال: من هذا؟ قال: هذا جبريل. قال: هل معك احد؟ قال: نعم، معي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فقال: أرسل اليه؟ قال: نعم. فلما فتح علونا السماء الدنيا، فإذا رجل قاعد، على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة؛ إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل يساره بكى. فقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح. قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بينه، فاهل اليمين منهم اهل الجنة، والأسودة التي عن شماله اهل النار فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى.

  حتى عرج بي الى السماء الثانية، فقال لخازنها: افتح. فقال له خازنها مثل ما قال الأول. ففتح".

  قال أنس: فذكر أنه وجد في السماوات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم صلوات الله عليهم. ولم يثبت [ ـ يعني أبا ذر ـ] كيف منازلهم. غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السادسة.

  قال أنس: فلما مر جبريل بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: " مرحبا  بالنبي الصالح والأخ الصالح. فقلت: من هذا؟ قال: هذا إدريس. ثم مررت بموسى فقال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح. قلت: من هذا؟ قال: هذا موسى. ثم مررت بعيسى فقال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح قلت: من هذا؟ قال: هذا عيسى. ثم مررت بإبراهيم فقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قلت: من هذا؟ قال: هذا إبراهيم عليه السلام".

  قال ابن شهاب: فأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:" ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام".

  قال ابن حزم وأنس بن مالك: قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "ففرض الله على امتي خمسين صلاة. فرجعت بذلك حتى مررت  على موسى، فقال: ما فرض الله لك على أمتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة. قال: فارجع الى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك. فراجعني، فوضع شطرها. فرجعت الى موسى. قلت: وضع شطرها. فقال: راجع ربك، فإن أمتك  لا تطيق ذلك. فراجعت، فوضع شطرها فرجعت اليه فقال: ارجع الى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك. فراجعته فقال: هي خمس وهي خمسون، لا يبدل القول لدي. فرجعت الى موسى فقال: راجع ربك. فقلت: استحييت من ربي، ثم انطلق بي حتى انتهى بي الى سدرة المنتهى وغشيها ألوان لا أدري ما هي، ثم ادخلت الجنة، فإذا فيها حبايل اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك".

وعن شريك بن عبدالله انه قال: سمعت ابن مالك يقول: ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مسجد الكعبة، أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى اليه وهو نائم في المسجد الحرام. فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم. فقال أحدهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة. فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى، فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم. فلم يكلموه، حتى احتملوه، فوضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبريل، فشق ما بين نحره الى لبته، حتى فرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم بيده، حتى أنقى جوفه، ثم أتى بطست من ذهب، فيه نور من ذهب، محشوا إيمانا وحكمة، فحشا به صدره ولغاديده ـ يعني عروق حلقه ـ ثم أطبقه، ثم عرج به الى السماء الدنيا.

    فضرب بابا من أبوابها، فناداه اهل السماء: من هذا؟ فقال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قال: وقد بعث؟ قال: نعم. قالوا: فمرحبا به وأهلا، فيستبشر به أهل السماء، لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يعلمهم. فوجد في السماء الدنيا آدم، فقال له جبريل هذا أبوك، فسلم عليه، فسلم عليه، ورد عليه آدم وقال: مرحبا وأهلا بابني، نعم الابن أنت. فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان. فقال: ما هذان النهران يا جبريل؟ قال: هذان النيل والفرات عنصرهما ثم مضى به في السماء، فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وذبرجد، فضرب يده، فإذا هو مسك أذفر. قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك ثم عرج الى السماء الثانية، فقالت الملائكة له مثل ما قالت الأولى. من هذا؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم قالوا: وقد بعث اليه؟ قال: نعم. قالوا: مرحبا به وأهلا.

  ثم عرج بي الى السماء الثالثة، وقالوا له مثل ما قالت الأولى والثانية، ثم عرج به الى الرابعة، فقالوا له مثل ذلك. ثم عرج به الى السماء السادسة، فقالوا له مثل ذلك. ثم عرج به الى السماء السابعة فقالوا له مثل ذلك. كل سماء فيها أنبياء قد سماهم، فوعيت منهم: إدريس في الثانية، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة بفضل كلامه لله. فقال موسى: رب لم أظن أن ترفع عليّ أحدا.

  ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه الا الله، حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى الله فيما أوحى: خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة. ثم هبط حتى بلغ موسى فاحتبسه موسى، فقال: يا محمد، ماذا عهد اليك ربك؟ قال: عهد اليّ خمسين صلاة كل يوم وليلة. قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك، فارجع ، فليخفف عنك ربك وعنهم فالتفت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الى جبريل، وكأنه يستشيره في ذلك، فأشار اليه جبريل: أن نعم إن شئت فعلا به الى الجبار، فقال وهو مكانه: يا رب: خفف عنا، فإن أمتي لا تستطيع هذا، فوضع عنه عشر صلوات، ثم رجع الى موسى، فاحتسبه، فلم يزل يردده  موسى الى ربه حتى صارت الى خمس صلوات.

  ثم احتبسه موسى عند الخمس، فقال: يا محمد، والله لقد راودت بني إسرائل قومي على أدنى من هذا فضعفوا، فتركوه، فأمتك أضعف أجسادا وقلوبا وأبانا وأبصار وأسماعا، فارجع فليخفف عنك ربك. كل ذلك يلتفت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الى جبريل ليشير عليه، ولا يكره ذلك جبريل. فرفعه عند الخامسة، فقال: يا رب إن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبدانهم، فخفف عنا. فقال الجبار: يا محمد. قال: لبيك وسعديك. قال: إنه لا يبدل القول لدي. كما فرضت عليك في أم الكتاب. قال: فكل حسنة عشر أمثالها، فهي خمسون في أم الكتاب، وهي خمس عليك. فرجع الى موسى فقال: كيف فعلت؟ فقال: خفف عنا، أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها. قال موسى: قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه، ارجع الى ربك فليخفف عنك أيضا. قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: يا موسى، قد والله استحييت من ربي مما اختلفت اليه. قال: فاهبط بسم الله. قال: واستيقظ وهو في المسجد الحرام.

زيادات ليست عند البخاري:  

  قال الحافظ رحمه الله:

  (وقع من الزيادات في قصة المعراج) عند مسلم من طريق همام عن قتادة عن أنس رفعه:" بينا أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، وإذا طينه مسك أذفر. فقال جبريل: هذا الكوثر" وله من طريق شيبان عن قتادة عن أنس: لما عرج بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.. فذكر نحوه.

  وعند أبي حاتم وابن عائذ من طريق يزيد بن أبي مالك عن أنس:" ثم انطلق حتى انتهى بي الى الشجرة، فغشيني من كل سحابة فيها من كل لون، فتأخر جبريل، وخررت ساجدا" وفي حديث ابن مسعود عند مسلم: ( وأعطي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الصلوات الخمس وخواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته المقحمات)، يعني الكبائر.وفي هذه الرواية من الزيادة: " ثم انجلت عني السحابة وأخذ بيدي جبريل، فانصرفت سريعا، فأتيت على ابراهم، فلم يقل شيئا، ثم أتيت على موسى فقال: ما صنعت؟.." الحديث.

  وفي أيضا:" فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:" مالي لم آت أهل سماء إلا رحبوا بي وضحكوا اليّ، غير رجل واحد، فسلمت عليه، فرد عليّ السلام، ورحب بي، ولم يضحك اليّ؟ قال: يا محمد، ذلك مالك خازن جهنم، لم يضحك منذ خلق، ولو ضحك الى أحد لضحك اليك".

  وفي حديث حذيفة عند أحمد والترمذي، ( حتى فتحت لهما أبواب السماء، فرأيا الجنة والنار، ووعد الآخرة أجمع) وفي حديث أبي سعيد: أنه عرض عليه الجنة، وأن رمانها، كأنه الدلاء، وإذا طيرها، كأنه البخت، وأنه عرضت عليه النار، فإذا هي لو طرح فيها الحجارة والحديد لأكلتها. وفي حديث شداد بن أوس:" فإذا جهنم تكشف عن مثل الزرابي، ووجدتها مثل الحمة السخنة". وزاد فيه: أنه رآها في وادي بيت المقدس. وفي رواية يزيد بن مالك عن أنس عند أبي حاتم، أن جبريل قال: يا محمد هل سألت ربك أن يريك الحور العين؟ قال: نعم. قال: فانطلق الى أولئك النسوة فسلم عليهن. قال: فأتيت اليهن، فسلمت، فرددن، فقلت: من أنتن؟ فقلن: خيرات حسان.." الحديث.

  وفي رواية أبي عبيدة الله بن عبدالله بن مسعود عن أبيه: ( أن إبراهيم الخليل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: يا بني إنك لاق ربك الليلة، وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها، فإن استطعت أن تكون حاجتك أوجلها في أمتك فافعل).

  وفي رواية الواقدي بأسانيده في أول حديث الاسراء: ( كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يسأل ربه أن يريه الجنة والنار، فلما كانت ليلة السبت لسبع عشرة خلت من رمضان، قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا، وهو نائم في بيته ظهرا، أتاه جبريل وميكائيل فقالا: انطلق الى ما سألت: فانطلقا به الى ما بين المقام وزمزم، فأتى بالمعراج، فإذا هو أحسن شيء منظرا، فعرجا به الى السماوات، فلقي الأنبياء، وانتهى الى سدرة المنتهى، ورأى الجنة والنار، وفرض عليه الخمس). فلو ثبت هذا لكان ظاهرا في أنه معراج آخر، لقوله: إنه كان ظهرا وأن المعراج كان من مكة، هو مخالف لما في الروايات الصحيحة في الأمرين معا. ويعكر على التعدد قوله: إن الصلوات فرضت حينئذ، إلا إن حمل على أنه أعيد ذكره تأكيدا، أو فرغ على أن الأول كان مناما، وهذا يقظة أو بالعكس، والله أعلم. 


  لماذا بيت المقدس:

  قال الحافظ رحمه الله: روى كعب الأحبار أن باب السماء الذي يقال له:
" مصعد الملائكة" يقابل بيت المقدس فأخذ منه العلماء أن الحكمة من الاسراء الى بيت المقدس قبل العروج، ليحصل العروج مستويا من غير تعويج. وفيه نظر لورود أن في كل سماء بيتا معمورا، وأن الذي في السماء الدنيا حيال الكعبة وكان المناسب أن يصعد من مكة ليصل الى البيت المعمور بغير تعويج، لأنه صعد من سماء الى سماء الى البيت المعمور.

  وقد ذكر غيره في مناسبات أخرى ضعيفة. فقيل: الحكمة في ذلك أن يجمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الليلة بين رؤية القبلتني. أو لأن بيت المقدس كان هجرة غالب الأنبياء قبله، فحصل له الرحيل اليه في الجملة، ليجمع بين أشتات الفضائل. أو لأنه محشر وغالب ما اتفق له في تلك الليلة يناسب الأحوال الأخروية، فكان المعراج منه أليق بذلك. أو للتفاؤل بحصول أنواع التقديس له حسا ومعنى. أو ليجتمع بالأنبياء جملة، والعلم عند الله.


هل كان الاسراء والمعراج مناما أو يقظة:

  قد اختلف السلف بحسب اختلاف الأخبار الواردة: فمنهم من ذهب الى ان الاسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة في اليقظة، بجسد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وروحه بعد المبعث. والى هذا ذهب جمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة. ولا ينبغي العدول عن ذلك: إذ ليس في العقل ما يحيله، حتى يحتاج الى تأويل.

 نعم، جاء في بعض الأخبار ما يخالف بعض ذلك، فجنح لأجل لك بعض أهل العلم منهم الى أن ذلك كله وقع مرتين، مرة في المنام توطئة وتمهيدا ومرة ثانية في اليقظة، كما وقع نظير ذلك في ابتداء مجيء الملك بالوحي.

  فقد [ذكر] ابن ميسرة التابعي الكبير وغيره، ان ذلك وقع في المنام وأنهم جمعوا بينه وبين حديث عائشة بأن ذلك وقع مرتين. والى هذا ذهب المهلب شارح البخاري، وحكاه  عن طائفة، وأبو نصر ابن القشيري، ومن قبلهم أبو سعيد في " شرف المصطفى" قال: كان للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم معارج، منها ما كان في اليقظة ومنها ما كان في المنام. وحكاه السهيلي عن ابن العربي واختاره.

  وجوز بعض قائلي ذلك أن تكون قصة المنام وقعت قبل المبعث لأجل قول شريك في روايته عن أنس: ( وذلك قبل أن يوحى اليه..) وقوله: "قبل أو يوحى اليه". أنكرها الخطابي وابن حزم وعبدالحق والقاضي عياض والنووي وعبارة النووي: وقع في رواية شريك ـ يعني هذه ـ أوهام أنكرها العلماء أحدها: قوله:" قبل أن يوحى اليه" وهو غلط لم يوافق عليه. وأجمع العلماء أن فرض الصلاة كان ليلة الاسراء، فكيف يكون قبل الوحي. انتهى. وصرح المذكورون بأن سريكا تفرد بذلك، وفي دعوى التفرد نظر، فقد وافقه كثير بن خنيس ـ بمعجمه ونون مصغر ـ  عن أنس، كما أخرجه سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في كتاب " المغازي" من طريقه وقال بعض المتأخرين: كانت قصة الاسراء في ليلة والمعراج في ليلة، متمسكا بما ورد في حديث أنس من رواية شريك، من ترك ذكر الاسراء. وكذا في ظاهر. حديث مالك بن صعصعة. ولكن ذلك لا يستلزم التعدد. بل هو محمول على أن بعض الرواة، وذكر ما لم يذكره الآخر كما سنبينه.

  وذهب بعضهم الى أن الاسراء كان في اليقظة، والمعراج كان في المنام. أو أن الاختلاف في كونه يقظة أو مناما خاص بالمعراج لا الاسراء. ولذلك لما أخبر به قريشا كذبوه في الاسراء واستبعدوا وقوعه، ولم يتعرضوا للمعراج. وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى قال:
{ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى}.

  فلو وقع المعراج في اليقظة لكان ذلك أبلغ في الذكر، فلما لم يقع ذكره في هذا الموضع، مع كون شأنه أعجب من الاسراء وأمره أغرب من الاسراء بكثير، دل على أنه كان مناما، وأما الاسراء فلو كان مناما لما كذبوه ولا استنكروه، لجواز وقوع مثل ذلك وأبعد منه لآحاد الناس.


  هل كان الاسراء والمعراج معا في ليلة واحدة؟

  وقيل: كان الاسراء مرتين في القظة: فالأولى: رجع من بيت المقدس وفي صبيحته أخبر قريشا بما وقع. والثانية أسري به الى بيت المقدس، ثم عرج به من ليلته الى السماء: الى آخر ما وقع، ولم يقع لقريش في ذلك اعتراض، لأن ذلك عندهم من جنس قوله: إن الملك يأتيه من السماء في أسرع من طرفة عين، وكانوا يعتقدون استحالة ذلك، مع قيام الحجة على صدقه بالمعجزات الباهرة، لمنهم عاندوا في ذلك واستمروا على تكذيبه فيه. بخلاف إخباره أنه جاء بيت المقدس في ليلة واحدة ورجع فإنهم صرحوا بتكذيبه فيه، وطلبوا منه نعت بيت المقدس لمعرفتهم به، وعلمهم بأنه ما كان رآه قبل ذلك، فأمكنهم استعلام صدقه في ذلك بخلاف المعراج.

  ويؤيد وقوع المعراج عقب الاسراء في ليلة واحدة، رواية ثابت عن أنس عند مسلم، ففي أوله:" أتيت بالبراق، فركبت حتى أتيت بيت المقدس" فذكر القصة الى أن قال:" ثم عرج بنا الى السماء الدنيا"ز وفي حديث أبي سعيد الخدري عند ابن اسحاق:" فلما فرغت مما كان في بيت المقدس، أتى بالمعراج فذكر الحديث. ووقع في أول حديث مالك بن صعصعة: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حدثهم عن ليلة أسري به. فذكر الحديث، فهو وإن  لم يذكر فيه الاسراء الى بيت المقدس، فقد أشار اليه، وصرح به في روايته، فهو المعتمد.

  واحتج من زعم أن الاسراء وقع مفردا، بما أخرجه البزار والطبراني، وصححه البيهقي في " الدلائل"  من حديث شداد بن أوس قال: قلنا: يا رسول الله كيف أسري بك؟ قال:" صليت صلاة العتمة بمكة فأتاني جبريل بدابة.." فذكر الحديث في مجيئه بيت المقدس وما وقع له فيه، قال: "ثم انصرف بي، فمررنا بعير لقريش بمكان كذا.. " فذكرهقال: " ثم أتيا أصحابي قبل الصبح بمكة".

  وفي حديث أم هانئ عند ابن اسحاق وأبي يعلى نحو ما في حديث أبي سعيد هذا: فإن ثبت أن المعراج كان مناما، على ظاهر رواية شريك عند أنس، فينتظم من ذلك أن الاسراء وقع مرتين: مرة في المنام على انفراده توطئة وتمهيدا، ومرة في اليقظة مضموما الى الاسراء. وأما كونه قبل البعث فلا يثبت.

  وجنح الامام أبو شامة الى وقوع المعراج مرارا، واستند الى ما أخرجه البزار وسعيد بن منصور من طريق أبي عمران الجوني عن أنس رفعه قال: "بينا أنا جالس، إذ جاء جبريل، فوكز بين كتفي، فقمنا الى شجرة فيها مثل وكري الطائر، فقعدت في أحدهما، وقعد جبريل في الآخر، فارتفعت حتى سدت الخافقين.." الحديث، وفيه:" ففتح لي باب من السماء، ورأيت النور الأعظم، وإذا دونه الحجاب رفرف الدر والياقوت.. ورجاله لا بأس فيهم، إلا أن الدارقطني ذكر له علة تقتضي إرساله. وعلى كل حال، فهي قصة اخرى، الظاهر أنها وقعت بالمدينة، ولا بعد في وقوع أمثالها، وإنما المستبعد وقوع التعدد في قصة المعراج، التي وقع فيها سؤاله عن كل نبي، وسؤال أهل كل باب: هل بعث اليه، وفرض الصلوات الخمس.. وغير ذلك فإن تعدد ذلك في اليقظة لا يتجه، فيتيعن رد بعض الروايات المختلفة الى بعض، أو الترجيح، إلا أنه لا بعد في جميع وقوع ذلك في المنام توطئة، ثم وقعه في اليقظة على وفقه كما قدمته. 

  ومن المستغرب قول ابن عبدالسلام في "تفسيره"  كان الاسراء في النوم واليقظة ووقع بمكة والمدينة. فإن كان يريد تخصيص المدينة بالنوم، ويكون كلامه على طريق اللف والنشر غير المرتب فيحتمل، ويكون الاسراء الذي اتصل به المعراج وفرضت فيه الصلوات في اليقظة بمكة، والآخر في المنام بالمدينة. وينبغي أن يزاد فيه: أن الاسراء في المنام تكرر بالمدينة النبوية، وفي  " الصحيح" حديث  سمرة الطويل في الجنائز، وفي غيره حديث عبدالرحمن بن سمرة الطويل، وفي "الصحيح" حديث ابن عباس في رؤيا الأنبياء، وحديث ابن عمر في ذلك والله اعلم.

  [وأسري]: مأخوذ من السرى، وهو سير الليل. تقول: أسرى وسرى إذا سار ليلا بمعنى. هذا قول الأكثر، وقال الحوفي: أسرى: سار ليلا، وسرى سار نهارا. وقيل أسرى: سار من أول الليل، وسرى: سار من من آخره، وهذا أقرب.

  والمراد بقوله: { أسرى بعبده}: أي جعل البراق يسري به، كما يقال: أمضيت كذا: أي جعلته يمضي، وحذف المفعول لدلالة السياق عليه، ولأن المراد ذكر المسرى به ذكر الدابة. والمراد بقوله:{ عبده} محمد عليه الصلاة والسلام اتفاقا. والضمير لله تعالى، والاضافة للتشريف. وقوله: {ليلا} ظرف للإسراء وهو للتأكيد، وفائدته رفع توهم المجاز، لأنه قد يطلق على سير النهار أيضا. ويقال: بل هو إشارة الى أن ذلك وقع في بعض الليل لا في جميعه، والعرب تقول: سرى فلان ليلا: إذا اسار بعضه وسرى ليلة: إذا سار جميعها، ولا يقال: أسرى ليلا إذا وقع سيره في أثناء الليل، وإذا وقع في أوله، يقال: . أدلج. ومن هذا قوله تعالى في قصة موسى وبني إسرائيل:{ فأسر بعبادي ليلا..} أي من وسط الليل.

  هل تعدد الاسراء؟ 

  قال الحافظ:
وأنكر صاحب "الهدى" أيضا على من زعم أن الاسراء تعدد، واستند الى استبعاد أن يتكرر، قوله: (ففرض عليه خمسين صلاة وطلب التخفيف..) الى آخر القصة، فإن دعوى التعدد تستلزم أن قوله تعالى:" أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي" أن فريضة الخمسين وقعت بعد أن وقع التخفيف، ثم وقع التخفيف والاجابة اليه وأعيد:" أمضيت فريضتي.." الى آخره. انتهى وما أظن أحدا ممن قال بالتعدد يلتزم إعادة  مثل ذلك يقظة، بل يجوز وقوع مثل ذلك مناما ثم وجوده يقظة، كما في قصة المبعث ويجوز تكرير إنشاء الرؤية، ولا تبعد العادة تكرير وقوعه، كاستفتاح السماء، وقول كل نبي ما نسب اليه بل الذي يظن أنه تكرر مثل حديث أنس رفعه:" بينا أنا قاعد، إذ جاء جبريل فوكز بين كتفي فقمت الى شجرة فيها مثل وكري الطائر، فقعدت في أحدهما، وقعد جبريل في الأخرى، فسمت وارتفعت، حتى سدت الخافقين، وأنا أقلب طرفي، ولو شئت أم أمس السماء لمسست فالتفت اليّ جبريل، كأنه جلس لأجلي وفتح بابا من أبواب السماء، فرأيت النور الأعظم، وإذا دونه الحجاب، وفوقه الدر والياقوت، فأوحى الى عبده ما أوحى". أخرجه البزار وقال: تفرد به الحارث بن عمير وكان بصريا مشهورا قلت: وهو من رجال البخاري.




















المعراج وأحداثه

متى تم المعراج؟
شق صدر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
البراق وأوصافه
السماء الدنيا

 متى تم المعراج:

  وقد اختلف في وقت المعراج، فقيل: كان قبل البعث، وهو شاذ، إلا إن حمل على أنه وقع حينئذ في المنام، كما تقدم. وذهب الأكثر الى أنه كان بعد المبعث، ثم اختلفوا، فقيل: قبل الهجرة بسنة. قاله ابن سعد وغيره، وجزم به النووي. وبالغ ابن حزم فنقل الاجماع فيه. وهو مردود، فإن في ذلك اختلافا كثيرا، يزيد على عشرة أقوال:

  منها ما حكاه ابن الجوزي أنه كان قبلها بثمانية أشهر وقيل: بستةأشهر، وحكى هذا الثاني أبو الربيع بن سالم، وحكى اثنتي عشرة من النبوة. وقيل: بأحد عشر شهرا. جزم به ابراهيم الحربي حيث قال: كان في ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة، ورجحه ابن المنير في "شرح السيرة" لابن عبدالبر وقيل: قبل الهجرة بسنة وشهرين، حكاه ابن عبدالبر. وقيل: قبلها بسنة  وثلاثة أشهر، حكاه ابن فارس. وقيل: بسنة وخمسة أشهر، قاله السدي وأخرجه من طريقه الطبري والبيهقي.

  فعلى هذا، كان في شوال أو في رمضان، على إلغاء الكسرين منه ومن ربيع الأول، وبه جزم الواقدي، وعلى ظاهره ينطبق ما ذكره ابن قتيبة وحكاه ابن عبدالبر، أنه كان قبلها بثمانية عشر شهرا، وعند ابن سعد: عن ابن أبي سيرة: أنه كان في رمضان، قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا. 

  وقيل: كان في رجب، حكاه ابن عبدالبر، وجزم به النووي في "الروضة" وقيل: قبل الهجرة بثلاث سنين، حكاه ابن الأثير وحكى عياض وتبعه القرطبي والنووي عن الزهري: أنه كان قبل الهجرة بخمس سنين، ورجحه عياض ومن تبعه، واحتج بأنه لا خلاف أن خديجة صلت معه بعد فرض الصلاة، ولا خلاف أنها توفت قبل الهجرة، إما بثلاث أو نحوها وإما بخمس، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان ليلة الاسراء. قلت: في جميع ما نفاه من الخلاف نظر:

  أما أولا: فإن العسكري حكى أنه ماتت قبل الهجرة بسبع سنين، وقيل بأربع. وعن ابن الأعرابي أنها ماتت عام الهجرة.

  وأما ثانيا: فإن فرض الصلاة اختلف فيه، فقيل: أول البعثة وكان ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي وإنما الذي فرض ليلة الاسراء الصلوات الخمس.

  وأما ثالثا: ففي حديث عائشة عند البخاري في بدء  الخلق: أن عائشة جزمت بأن خديجة ماتت قبل أن تفرض الصلاة فالمعتمد أن مراد من قال: بعد أن فرضت الصلاة، ما فرض قبل الصلوات الخمس، إن ثبت ذلك. ومراد عائشة بقولها: (ماتت قبل أن تفرض الصلاة): أي الخمس فيجمع بين القولين بذلك، ويلزم منه أنا ماتت قبل الاسراء.

  وأما رابعا: ففي سنة موت خديجة اختلاف آخر فحكى العسكري عن الزهري: أنها ماتت لسبع سنين مضين من البعثة، وظاهره أن ذلك قبل الهجرة بست سنين، فرعه العسكري على قول من قال: إن المدة بين البعث والهجرة كانت عشرا. 

  وأما قوله في رواية شريك عن أنس: ( حتى أتوه ليلة أخرى)، ولم يعين المدة بين المجيئين، فيحمل على أن المجيء الثاني كان بعد أن أوحى اليه وحينئذ وقع الاسراء والمعراج. وإذا كان بين المجيئين مدة، فلا فرق في ذلك بين أن تكون تلك المدة ليلة واحدة أو ليالي كثيرة أو عدد سنين وبهذا يرتفع الاشكال عن رواية شريك، ويحصل به الوفاق أن الاسراء كان في اليقظة بعد البعثة وقبل الهجرة ويسقط تشنيع الخطابي وابن حزم وفيرهما، بأن شريكا خالف الاجماع في دعواه أن المعراج كان قبل البعثة وبالله التوفيق. 

  وأما ما ذكره بعض الشراح أنه كان بين الليلتين اللتين أته فيهما الملائكة سبع، وقيل: ثمان، وقيل: تسع، وقيل: ثلاث عشر، فيحمل على إرادة السنين، لا كما فهمه الشارح المذكور أنها ليال. وبذلك جزم ابن القيّم في هذا الحديث نفسه.

  وأقوى ما يستدل به أن المعراج بعد البعثة، قوله في هذا الحديث نفسه أن جبريل قال لبواب السماء إذ قال له: أبعث؟ قال: نعم فإنه ظاهر في أن المعراج كان بعد البعثة، فيتعين ما ذكرته من التأويل وأقله قوله: ( فاستيقظ وهو عند المسجد الحرام)، فإن حمل على ظاهره، جاز أن يكون نام، بعد أن هبط من السماء، فاستيقظ وهو عند المسجد الحرام. وجاز أن يؤول قوله: استيقظ: أي أفاق مما كان فيه، فإنه إذا أوحى اليه يستغرق فيه، فإذا انتهى رجع الى حالته الأولى، فكنى عنه بالاستيقاظ. 

  أي أنه أفاق مما كان فيه من شغل البال، بمشاهدة الملكوت، ورجع الى العالم الدنيوي. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي حمزة: لو قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إنه كان يقظان، لأخبر بالحق، لأن قلبه في النوم واليقظة سواء، وعينه أيضا، لم يكن النوم تمكن منها، لكنه تحرى صلى الله عليه وعلى آله وسلم الصدق في الإخبار بالواقع فيؤخذ منه أنه لا يعدل عن حقيقة اللفظ للمجاز إلا لضرورة.

  أما الشك في رواية مالك بن صعصعة في قوله:" في الحطيم وربما في الحجر، فهو شك من قتادة ـ الراوي عن أنس بن مالك بن صعصعة. كما بينه أحمد عن عفان عن همام، ولفظه:" بينا أنا نائم في الحطيم ـ وربما قال قتادة: في الحجر".

  والمراد بالحطيم هنا: الحجر. وأبعد من قال: المراد به: ما بين الركن والمقام، أو بين زمزم والحجر وهو إن كان مختلفا في الحطيم: هل هو الحجر أم لا؟ لكن المراد هنا بيان البقعة التي وقع فيها. ومعلوم أنها لم تتعدد، لن القصة متحدة لاتحاد مخرجها.

  وفي سياق آخر في رواية مالك هذه:" بينا أنا عند البيت" وهو أعم ووقع في رواية الزهري عن أنس عن أبي ذر:" فرج سقف بيتي وأنا بمكة" وفي رواية الواقدي بأسانيده: انه أسري به من شعب أبي طالب وفد حديث أم هاني عند الطبراني: أنه بات في بيتها، قالت: فقدته من الليل فقال: "إن جبريل أتاني".

  والجمع بين هذه الأقوال، أنه نام في بيت أم هاني، وبيتها عند شعب أبي طالب، ففرج سقف بيته، وأضاف البيت اليه لكونه كان يسكنه، فنزل منه الملك، فأخرجه من البيت الى المسجد، فكان به مضطجعا وبه أثر النعاس. ثم أخرجه الملك الى باب المسجد، فأركبه البراق.

  وقد وقع في مرسل الحسن عند ابن اسحاق: أن جبريل أتاه، فأخرجه الى المسجد، فأركبه البراق، وهو يؤيد هذا الجمع. وقيل: الحكنة من نزوله عليه من السقف، الاشارة الى المبالغة في مفاجأته بذلك، والتنبيه على أن المراد منه أن يعرج به الى جهة العلو.

  كم مرة شق صدر الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم:

  وثبت شق الصدر أيضا عند البعثة، كما أخرجه أبو نعيم في (الدلائل) ولكل منها حكمة. فالأول وقع فيه من الزيادة كما عند مسلم من حديث أنس:" فأخرج علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك" وكان هذا في زمن الطفولة فنشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان، ثم وقع شق الصدر عند البعث، زيادة في إكرامه، ليتلقى ما يوحى اليه بقلب قوي، في أكمل الأحوال من التطهير ثم وقع شق الصدر عند إرادة العروج الى السماء، ليتاهب للمناجاة. ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل، لتقطع المبالغة في الاسباع بحصول المرة الثالثة كما تقرر في شرعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ويحتمل أن تكون الحكمة من انفرج سقف بيته، الاشارة الى ما سيقع من شق صدره. وأنه سيلتئم بغير معالجة يتضرر بها.

  وجميع ما ورد في شق الصدر، واستخراج القلب، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة، مما يجب التسليم له دون التعرض لتصرفه عن حقيقته، لصلاحية القدرة، فلا يستحيل شيء من ذلك. قال القرطبي في " المفهم" لا يلتفت لإنكار الشق ليلة الاسراء، لأن رواته ثقات مشاهير.. ثم ذكر نحو ما تقدم.

  وقال الحافظ في موضع آخر: ثبت شق الصدر ليلة الاسراء كذلك، في غير رواية شريك في "الصحيحين" من حديث أبي ذر. ووقع أيضا عند البعثة، كما أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده وأبو نعيم والبيهقي في دلائل النبوة. وذكر أبو بشر الدولابي بسنده: أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى في المنام أن بطنه أخرج. ثم أعيد، فذكر ذلك لخديجة... الحديث.  ووقع شق الصدر الكريم أيضا في حديث أبي هريرة حين كان ابن عشر سنين، وهو عند عبدالله بن احمد في "زيادات المسند" ووقع في "الشفاء" أن جبريل قال لما غسل قلبه: قلب سديد فيه عينان تبصران وأذنان تسمعان".    

  البراق وأوصافه: 

  وقوله في الحديث في صفة البراق:" يضع خطوه عند أقصى طرفه" بسكن الراء والبفاء: أي يضع رجله عند منتهى ما يرى بصره: وفي حديث ابن مسعود عند أبي يعلى والبزار:" إذا أتى على جبل ارتفعت رجلاه، وإذا هبط ارتفعت يداه" وفي رواية لابن سعد عن الواقدي بأسانيده:" له جناحان" ولم أرها لغيره". وعند الثعلبي بسند ضعيف عن ابن عباس في صفة البراق:" لها خد كخد الانسان، وعرف كالفرس، وقوائم كالإبل، وأظلاف وذنب كالبقرة وكأن صدره ياقوتة حمراء".

  وقيل: يؤخذ من ترك تسمية سير البراق طيرانا، ان الله إذا أكرم عبدا بتسهيل الطريق له، حتى قطع المسافة الطويلة في الزمن اليسير، أن لا يخرج ذلك عن اسم السفر وتجري عليه أحكامه. والبراق ـ بضم الموحدة وتخفيف الراء ـ مشتق من البريق. فقد جاء في لونه أنه أبيض، أو من البرق، لأنه وصفه بسرعة السير، أو من قولهم شاة برقاء، إذا كان خلال صوفها الأبيض طاقات سود. ولا ينافيه وصفه في الحديث، بأن البراق أبيض، لأن البرقاء من الغنم معدودة في البياض.

  ويحتمل أن لا يكون مشتقا. قال ابن أبي جمرة: خص البراق بذلك، إشارة الى الاختصاص به، لأنه لم ينقل أن أحدا ملكه، بخلاف جنسه من الدواب. قال: والقدرة كانت صالحة لأن يصعد بنفسه من غير البراق كان زيادة له في تشريفه، لأنه لو صعد بنفسه لكان في صورة ماش، والراكب أعز من الماشي.

  قوله:" فحملت عليه" يعني في رواي ابن صعصعة): في رواية لأبي سعيد في " شرف المصطفى": " فكان الذي أمسك بركابه جبريل، وبزمام البراق ميكائيل" وفي رواية معمر عن قتادة عن أنس: ( أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليلة أسري  به، أتى بالبراق مسرجا ملجما، فاستصعب عليه، فقال له جبريل: ما حملك على هذا؟ فوالله ما ركبك خلق قط أكرم على الله منه. قال: فارفض عرقا). أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب صححه ابن حبان.

  وذكر ابن اسحاق عن قتادة:" أنه لما شمس، وضع جبريل يده على معرفته فقال: أما تستحي؟.." فذكر نحوه مرسلا، لم يذكر أنسا. وفي رواية وثيمة عن ابن اسحاق.. فارتعشت حتى لصقت بالأرض، فاستويت عليها" وللنسائي وابن مردويه من طريق يزيد بن ابن مالك: عن أنس نحوه موصلا وزاد:" زكانت تسخر للأنبياء قبله" ونحوه في حديث أبي سعيد عند ابن اسحاق.

  وفيه دلالة أن البراق كان معدا لركوب الأنبياء، خلافا لمن نفى ذلك، كابن دحية، وأول قول جبريل:" فما ركبك أكرم على الله منه"؛ أي ما ركبك أحد قط، فكيف يركبك أكرم منه. وقد جزم السهيلي أن البراق، إنما استصعب عليه لبعد عهده بركوب الأنبياء قبله. قال النووي: قال الزبيدي في "مختصر العيني" وتبعه صاحب "التحرير": كان الأنبياء يركبون البراق قال: وهذا يحتاج الى نقل صحيح.

  قلت: قد ذكرت النقل بذلك، ويؤيده ظاهر قوله:" فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء" ووقع في "المبتدأ" لابن اسحاق، ومن رواية وثيمة في ذكر الاسراء:" فاستصعب البراق، وكانت الأنبياء تركبها قبلي، وكانت بعيدة العهد بركوبهم، لم تكن ركبت في الفترة". وفي "مغازي ابن عائذ" من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب قال: "البراق: هي الدابة التي كان يزور ابراهيم عليها اسماعيل".  

  وفي الطبري من حديث عبدالرحمن بن أبي ليلى عن أبيه:" جبريل أتى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالبراق، فحمله بين يديه". وعند أبي يعلى والحاكم من حديث ابن مسعود رفعه:" أتيت بالبراق، فركبت خلف جبريل". وفي حديث حذيفة عند الترمذي والنسائي:" فما زايلا ظهر البراق". وفي " كتاب مكة" للفاكهي والأزرقي: ( أن إبراهيم كان يحج بها وبولدها). فهذه آثار يشد بعضها بعضا. وجاءت آثار أخرى تشهد لذلك لم أر الإطالة بإيرادها.

  ومن الأخبار الواهية في صفة البراق. ما ذكره الماوردي عن مقاتل، وأورده القرطبي في "التذكرة"، ومن قبله الثعلبي من طريق ابن الكلبي: عن أبي صالح عن ابن عباس قال: ( الموت والحياة جسمان، فالموت كبش لا يجد ريحه شيء إلا مات والحياة فرس بلقاء أنثى، وهي التي كان جبريل والأنبياء يركبونها، لا تمر بشيء ولا يجد ريحها شيء إلا حيي).

  ومنها أن البراق لما عاتبه جبريل قال له معتذرا: أن مس الصفراء اليوم، وأن الصفراء صنم من ذهب كان عند الكعبة، وأن النبي صلى الله على وعلى آله وسلم مر به فال:" تبا لمن يعبدك من دون الله" وأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى زيد بن حارثة أن يمسه بعد ذلك، وكسره يوم فتح مكة.

  قال ابن المنير: إنما استصعب البراق تيها وزهوا بركوب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأراد جبريل استنطاقه، فلذلك خجل وأرفض عرقا من ذلك. وقريب من ذلك رجفة الجبل به، حتى قال له:" أثبت، فإنما عليك نبي وصديق وشهيد"، فإنها هزة الطرب لا هزة الغضب.

  ووقع في حديث حذيفة عند أحمد قال: ( أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالبراق، فلم يزل ظهره هو وجبريل، حتى انتهيا الى بيت المقدس). فهذا لم يسنده حذيفة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيحتمل أنه قاله عن اجتهاد، ويحتمل أن يكون قوله: (هو وجبريل) يتعلق بمرافقته في السير، لا في الركوب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فلا مدخل لغيره فيها.

  قلت: ويرد التأويل المذكور: أن في "صحيح" ابن حبان من حديث ابن مسعود: ( أن جبريل حمله على البراق رديفا له). وفي رواية الحارث في (مسنده) ( أتى بالبراق فركب خلف جبريل، فسار بهما). فهذا صريح في ركوبه معه، فالله أعلم.

  وأيضا فإن ظاهره ان المعراج وقع للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الى أن صعد السماوات كلها، ووصل الى ما وصل، ورجع وهو على حاله. وفيه نظر لما سأذكره. ولعل حذيفة إنما أشار الى ما وقع ليلة الاسراء المجردة التي لم يقع فيها معراج على ما تقدم من تقرير وقوع الاسراء مرتين.

  وصول الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم الى السماء الدنيا:   

  [و] قوله:" فانطلق بي جبريل":  وفي رواية:" فانطلقت مع جبريل" ولا مغايرة بينهما بخلاف  ما نحا اليه بعضهم من أن [الرواية الثانية] تشعر أنه ما احتاج الى جبريل في العروج، بل كانا معا بمنزلة واحدة. لكن معظم الروايات جاء باللفظ الأول. وفي حديث أبي ذر"عند البخاري" في أول الصلاة: " ثم أخذ بيدي فعرج بي" والذي يظهر أن جبربل في تلك الحالة، كان جليلا له، فلذلك جاء سياق الكلام يشعر بذلك.

  [و] قوله:" حتى أتى السماء الدنيا"، ظاهره أنه استمر على البراق حتى عرج الى السماء، وهو مقتضى كلام ابن أبي جمرة المذكور قريبا، وتمسك به أيضا  من زعم أن المعراج كان في ليلة غير ليلة الاسراء الى بيت المقدس. فأما العروج ففي غير هذه الرواية ـ يعني غير رواية مالك بن صعصعة ـ من الأخبار، أنه لم يكن على البراق، بل رقى المعراج: وهو السلم، كما وقع مصرحا به في حديث أبي سعيد عن ابن اسحاق والبيهقي في "الدلائل" ولفظه:" فإذا أنا بدابة كالبغل مضطرب الأذنين، يقال له: البراق، وكانت الأنبياء تركبه قبلي فركبته.." فذكر الحديث. قال:" ثم دخلت أنا وجبريل بيت المقدس، فصليت ثم أتيت بالمعراج".

  وفي رواية إبن اسحاق: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول:" لما فرغت مما كان في بيت المقدس، أتى بالمعراج، فلم أر قط شيئا كان أحسن  منه وهو الذي يمد اليه الميت عينه إذا حضر. فأصعدني صاحبي فيه، حتى انتهى بي الى باب من أبواب السماء.." الحديث.

  وفي رواية كعب: ( فوضعت لع مرقاة من فضة ومن ذهب، حتى عرج هو وجبريل). وفي رواية لأبي سعيد في " شرف المصطفى": ( أنه أتى بالمعراج من جنة الفردوس، وأنه منضد باللؤلؤ، وعن يمينه ملائكة وعن يساره ملائكة).

  وأما المحتج بالتعدد فلا حجة له، لاحتمال أن يكون التقصير في ذلك الإسراء من الراوي، وقد حفظه  ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال:" أتيت بالبراق.. فوصفه. قال: فركبته، حتى أتيت، بيت المقدس، فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء، ثم دخلت على المسجد، فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت، فجاءني جبريل بإناءين.. فذكر القصة. قال: ـ ثم عرج بي الى السماء.." وحديث أبي سعيد دال على الاتحاد.

  وقوله في رواية ثابت " فربطته بالحلقة" أنكره حذيفة". فروى أحمد والترمذي من حديث حذيفة قال:" تحدثون أنه ربطه، اخاف أن يفر منه، وقد سخره له عالم الغيب والشهادة؟". قال البيهقي: المثبت مقدم على النافي. يعني من أثبت ربط البراق والصلاة في بيت المقدس، معه زيادة علم على من نفى ذلك، فهو أولى بالقبول.

  ووقع في رواية بريدة عند البزار: ( لما كان ليلة أسري بي، فأتى جبريل الصخرة التي ببيت المقدس، فوضع اصبعه فيها، فخرقها، فشد به البراق). ونحوه للترمذي. وأنكر حذيفة أيضا في هذا الحديث، انه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في بيت المقدس، واحتج بأنه لو صلى فيه لكتب عليكم الصلاة فيه، كما كتب عليكم الصلاة في البيت العتيق.

  والجواب عنه: منع التلازم في الصلاة إن كان أراد بقول: ( كتب عليكم) الفرض. وإن أراد التشريع فنلتزمه. وقد شرع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في بيت المقدس، فقرنه بالمسجد الحرام ومسجده في شد الرحال، وذكر فضيلة الصلاة فيه في غير ما حديث.

  وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي:" حتى أتيت بيت المقدس، فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء تربط بها.. ـ وفيه:ـ فدخلت أنا وجبريل بيت المقدس، فصلى  كل واحد منا ركعتين". وفي رواية أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود عن أبيه نحوه، وزاد:" ثم دخلت المسجد . فعرفت النبيين، بين قائم وراكع وساجد، ثم أقيمت الصلاة فأممتهم". وفي رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس عند أبي حاتم:" فلم ألبث الا يسيرا حتى اجتمع ناس كثيرة، ثم أذن مؤذن، فأقيمت الصلاة، فقمنا صفوفا ننتظر من يؤمنا، فأخذ بيدي جبريل فقدمني فصليت بهم". وفي حديث ابن مسعود عند مسلم:" وحانت الصلاة فأممتهم". وفي حديث ابن عباس عند أحمد:" فلما أتى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المسجد الأقصى قام يصلي، فإذا النبيون أجمعون يصلون معه". وفي حديث عمر عند أحمد أيضا: أنه لما دخل بيت المقدس قال: أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وعلىآله وسلم، فتقدم الى القبلة فصلى.

  قال عياض: يحتمل أن يكون صلى بالأنبياء جميعا في بيت المقدس، ثم صعد منهم الى السماوات من ذكر أنه صلى الله عليه وسلم رآه.
ويحتمل أن تكون صلاته بهم بعد أن هبط من السماء، فهبطوا أيضا. وقال غيره: رؤيته إياهم في السماء محمولة على رؤية أرواحهم الا عيسى، لما ثبت أنه رفع بجسده، وقيل في إدريس أيضا ذلك. وأما الذين صلوا معه في بيت المقدس، فيحتمل الأرواح خاصة، ويحتمل الأجساد بأرواحها. والأظهر أن صلاته بهم ببيت المقدس كان قبل العروج، والله أعلم.

  قال الحافظ رحمه الله: وقد اختلف في الحكمة في اختصاص الأنبياء كل منهم بالسماء التي التقاه بها. فقيل: ليظهر تفاضلهم في الدرجات. وقيل: لمناسلة تتعلق بالحكمة في الاقتصار، على هؤلاء دون غيرهم من الأنبياء. فقيل: أمروا بملاقاته، فمنهم من أدركه في أول وهلة، ومنهم من تأخر فلحق، ومنهم من فاته. وهذا زيفه السهيلي فأصاب.

  وقيل الحكمة في الاقتصار على هؤلاء المذكورين، للإشارة الى ما سيقع له صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع قومه، من نضير ما وقع لكل منهم. فأما آدم فوقع التنبيه بما وقع له من الخروج من الجنة الى الأرض، بما سيقع للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الهجرة الى المدينة. والجامع بينهما ما حصل لكل منهما من المشقة وكراهة فراق ما ألفه من الوطن. ثم كان مال كل منهما أن يرجع الى وطنه الذي أخرج منه.

  وبعيسى ويحيى على ما وقع له من أول الهجرة من عداوة اليهود وتماديهم على البغي عليه. وإرادتهم وصول السوء اليه. وبيوسف على ما وقع له من إخوانه من قريش في نصبهم الحرب له، وإرادتهم هلاكه، وكانت العاقبة له. وقد أشار الى ذلك لقوله يوم الفتح:" أقول لكم كما قال يوسف: {لا تثريب عليكم}".

  وبإدريس على رفيع منزلته عند الله. وبهارون على أن قومه رجعوا الى كحبته بعد أن آذوه. وبموسى على ما وقع له من معالجة قومه. وقد أشار الى ذلك بقول:" لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر". وهذه مناسبات لطيفة أبداها السهيلي. فأوردتها منقحة ملخصة.

  وقد زاد ابن المنير في ذلك أشياء أضربت عنها، إذ أكثرها في المفاضلة بين الأنبياء، والإشارة في هذا المقام عندي أولى من تطويل العبارة وذكر في مناسبة لقاء ابراهيم في السماء السابعة معنى لطيفا زائدا، وهو ما اتفق له صلى الله عليه وعلى آله وسلم من دخول مكة في السنة السابعة وطوافه بالبيت، ولم يتفق  له الوصول اليها بعد الهجرة قبل هذه، بل قصدها في السنة السادسة فصدوه عن ذلك.

  قال ابن أبي جمرة: الحكمة من كون آدم في السماء الدنيا، لأنه أول الأنبياء وأول الآباء، وهو أصل، فكان أولا في الأولى، ولأجل تأنيس النبوة بالأبوة. وعيسى في الثانية لأنه أقرب الأنبياء عهدا من محمد، ويليه يوسف لأن امة محمد تدخل الجنة على صورته. وإدريس في الرابعة لقوله: ورفعناه مكانا عليا} والرابعة من السبع وسط معتدل. وهارون لقربه من أخيه موسى. وموسى أرفع منه لفضل كلام الله. وإبراهيم لأنه الأب الأخير، فناسب ان يتجدد للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بلقيه أنس. لتوجهه بعده الى عالم آخر، وأيضا، فمنزلة الخليل تقتضي على أن تكون أرفع المنازل، ومنزلة الحبيب أرفع من منزلته، فلذلك ارتفع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن منزلة إبراهيم الى قاب قوسين أو أدنى. 





































  قال الحافظ رحمه الله. ووقع في رواية ميمون بن سياه عن أنس عند الطبري " فدنا ربك عز وجل، فكان قاب قوسين أو أدنى". قال: الخطابي: ليس في هذا الكتاب ـ يعني "

لقاء النبي بالأنبياء


لقاء النبي صلى الله عليه وعل آله وسلم في السماء:

  واختلف في حال الأنبياء عند لقى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إياهم ليلة الاسراء: هل أسري بأجسادهم لملاقاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تلك الليلة، أو أن أرواحهم مشكلة بشكل أجسادهم، كما جزم أبو الوفاء بن عقيل؟ واختار الأول بعض شيوخنا، واحتج بما ثبت في مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال:" رأيت موسى ليلة أسري بي قائما يصلي في قبره". فدل على أنه أسري به لما مر به. قلت: ليس ذلك بلازم، بل يجوز أن يكون لروحه اتصال بجسده في الأرض، فلذلك يتمكن من الصلاة وروحه مستقرة في السماء.

  أما منازلهم فالذي أشكل رواية أنس عن أبي ذر وقول أنس: فذكر أنه وجد في السماوات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم صلوات الله عليهم، ولم يثبت كيف منازلهم. غير أنه وجد ىدم في السماء الدنيا وابراهيم في السادسة.

  قال الحافظ رحمه الله: والثابت في جميع الروايات غير هاتين أنه ـ يعني ابراهيم ـ في السابعة. فإن قلنا بتعدد المعراج فلا تعارض، وإلا فالأرجح رواية الجماعة، لقوله فيها:" أنه رآه مسندا ظهره الى البيت المعمور"، وهو في السابعة بلا خلاف. وأما ما جاء عن علي أنه في السادسة عند شجرة طوبى فإن ثبت حمل على أنه البيت الذي في السادسة بجانب شجرة طوبى، لأنه جاء عنه: أن في كل سماء بيتا يحاذي الكعبة، وكل منها معمور بالملائكة.

  وقال الحافظ في موضع ىخر: وقد توفقت: (رواية قتادة عن أنس بن مالك بن صعصعة) مع رواية ثابت عن أنس عند مسلم: أن في الأولى آدم وفي الثانية يحيى وعيسى وفي الثالثة يوسف وفي الرابعة إدريس وفي الخامسة هارون وفي السادسة موسى وفي السابعة إبراهيم.

  وخالف ذلك الزهري في روايته عن أنس عن أبي ذر: أنه لم يثبت أسماءهم وقال فيه:" وإبراهيم في السماء السادسة". ووقع في رواية شريك عن أنس: أن إدريس في الثالثة وهارون في الرابعة وآخر في الخامسة. وسياقه يدل على أنه لم يضبط منازلهم أيضا، كما صرح  به الزهري. ورواية من ضبط أولى، ولا سيما مع اتفاق قتادة وثابت. وقد وافقهما يزيد بن أبي مالك عن أنس، إلا أنه خالف في إدريس وهارون، فقال: هارون في الرابعة وإدريس في الخامسة، ووافقهم أبو سعيد، إلا أن في (روايته): يوسف في الثانية وعيسى ويحيى في الثالثة. والأول أثبت.

بكاء موسى لما رأى منزلة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:

 أما بكاء موسى وقوله:" بكى لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي: وفي رواية شريك عن أنس:" لم أظن أحدا يرفع علي" وفي حديث أبي سعيد:" قال موسى: يزعم بنو اسرائيل أني أكرم على الله، وهذا أكرم على الله مني". زاد الأموي في روايته:" ولو كان هذا وحده هان عليّ، ولكن معه أمته، وهم أفضل الأمم عند الله". وفي رواية أبي عبدالله بن عبدالله بن مسعود عن أبيه: ( أنه مر بموسى عليه السلام وهو يرفع صوته فيقول: أكرمته وفضلته. فقال جبريل: هذا موسى. قلت: على من تذمره؟ قال: على ربه. قلت: على ربه؟ قال: إنه يعرف ذلك منه).

  قال العلماء: لم يكن بكاء موسى حسدا، معاذ الله، فإن الحسد في ذلك العالم منزوع عن آحاد المؤمنين، فكيف بمن اصطفاه الله تعالى. بل كان أسفا على ما فاته من الأجر الذي يترتب عليه رفع الدرجة، بسبب ما وقع من أمته، من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجوهم المستلزم لتنقيص أجورهم المستلزم لتنقيص أجره، لأن لكل نبي مثل أجر من اتبعه، ولهذا كان من اتبعه من أمته في العدد، دون من اتبع نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، مع طول مدتهم بالنسبة لهذه الأمة. وأما قوله: " غلام" يعني في رواية قتادة عن أنس بن مالك بن صعصعة. فليس على سبيل التنقيص، بل على سبيل التنويه يقدرة الله وعظيم كرمه إذ أعطى لمن كان في ذلك السن مالم يعطيه أحدا قبله، ممن هو أسن منه وقد وقع من موسى من العناية بهذه الأمة، من أمر الصلاة، ما لم يقع لغيره. ووقعت الاشارة لذلك في حديث أبي هريرة عند الطبري والبزار، قال عليه الصلاة والسلام:" كان موسى أشدهم علي حين مررت به، وخيرهم لي حين رجعت اليه". وفي حديث أبي سعيد:"... فأقبلت راجعا  فمررت بموسى، ونعم الصاحب كان لكم، فسألني: كم فرض عليك ربك؟.." الحديث.

  قال ابن أبي جمرة: إن الله جعل الرحمة في قلوب الأنبياء أكثر مما جعل في قلوب غيرهم، لذلك بطى رحمة لأمته اما قوله:"هذا الغلام" فأشار الى صغر سنه بالنسبة اليهم. قال الخطابي: العرب تسمي الرجل المستجمع السن غلاما، ما دامت فيه بقية من القوة.

  ويظهر لي أن موسى عليه السلام، أشار الى ما أنعم الله به على نبينا، عليهما الصلاة والسلام، من استمرار القوة في الكهولة، والى أن دخل سن الشيخوخة، ولم يدخل على بدنه هرم، ولا اعترى قوته نقص، حتى إن الناس في قدومه المدينة (كما روى البخاري) من حديث أنس، لما رأوه مردفا أبا بكر، أطلقوا عليه اسم الشاب، وعلى أبي بكر اسم الشيخ، مع كونه في العمر أسن من أبي بكر والله أعلم.

   وقال القرطبي: الحكمة في تخصيص موسى بمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الصلاة، لعلها لكون أمة موسى كلفت من الصلوات، بما لم تكلف به غيرها من الأمم، فثقلت عليهم، فأشفق موسى على أمة محمد من مثل ذلك. ويشير الى ذلك قوله:" إني قد جربت الناس قبلك.." انتهى وقال غيره: لعلها من جهة أنه ليس في الأنبياء من له أتباع أكثر من موسى ولا من له كتاب أكبر، ولا أجمع للأحكام من هذه الجهة، مضاهيا للنبي صلى الله عليه وسلم، فناسب أن يتمنى أن يكون له مثل ما أنعم به عليه، من غير أن يريد زواله عنه. وناسب أن يطلعه على ما وقع له، وينصحه فيما يتعلق به. ويحتمل ان يكون موسى لما غلب عليه في الابتداء الأسف على نقص حظ امته بالنسبة أمة محمد، حتى تمنى ما تمنى ان يكون، استدراك ذلك ببذل النصيحة لهم والشفقة عليهم، ليزيل ما عساه أن يتوهم عليه فيما وقع منه في الابتداء.

  وذكر السهيلي: أن الحكمة في ذلك، انه كان قد رأى في مناجاته صفة أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فدعا الله أن يجعله منهم، فكان إشفاقة عليهم كعناية من هو منهم.

  وقد وقع من موسى عليه السلام في هذه القصة، من مراعاة جانب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه أمسك عن جميع ما وقع  له، حتى فاقه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أدبا معه وحسن عشرة، فلما فارقه بكى، وقال ما قال.
من عجائب ما رأى في السماء السابعة
{لقد رأى من آيات ربه الكبرى}
البيت المعمور
الملائكة
سدرة المنتهى
الأنهار التي في السماء


 البيت المعمور:

  أخرج البخاري عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رضي الله عنه.. وقال فيه:".. فلما خلصت، فإذا بإبراهيم. قال: هذا أبوك فسلم عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح ثم رفعت لي سدرة المنتهى فإذا نيقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة. قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران. فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان، فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات. ثم رفع لي البيت المعمور.." الحديث. وقال البخاري في موضع آخر: حدثنا هدبة بن خالد: حدثنا سعيد وهشام قالا: حدثنا قتادة حدثنا أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة.. وقال فيه:" فأتينا السماء السابعة قيل: من هذا؟ قيل: جبريل. قيل: من معك؟ قيل: محمد. قيل: وقد أرسل اليه؟ مرحبا به، ولنعم المجيء جاء. فأتيت على إبراهيم، فسلمت عليه، فقال: مرحبا بك من ابن ونبي. فرفع لي البيت المعمور. فسألت جبريل فقال: هذا البيت المعمور، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا اليه آخر ما عليهم.." الحديث.

  وقال البخاري في آخره: وقال همام عن قتادة عن الحسن: عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم:" في البيت المعمور". قال الحافظ رحمه الله: يريد ـ يعني البخاري ـ أن هماما فصل في سياقه قصة البيت المعمور، من قصة الإسراء، فروي أصل الحديث عن قتادة عن أنس، وقصة البيت عن قتادة عن الحسن. وأما سعيد ـ وهو ابن عروبة وهشام ـ وهو الدستوائي ـ، فأدرجا قصة المعمور في حديث أنس. والصواب رواية همام وهي موصولة هنا عن هدبة عنه. ووهم من زعم أنها معلقة، فقد روى الحسن بن سفيان في " مسنده" الحديث بطوله عن هدبة، فاقتص الحديث الى قوله:" فرفع لي البيت المعمور" قال قتادة: فحدثنا عن أبي هريرة أنه ( رأى البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ولا يعودون فيه). وأخرجه الاسماعيلي عن الحسن بن سفيان وأبي يعلى والبغي وغير واحد، كلهم عن هدبة به مفصلا.

  وعرف بذلك مراد البخاري بقوله:" في البيت المعمور". وأخرج من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: ذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال:" البيت المعمور مسجد في السماء بحذاء الكعبة، لو خر اخر عليها يدخله سبعون ألف ملك كل يوم، إذا خرجوا منه لم يعودوا".

  وهذا وما قبله يشعر بأن قتادة كان تارة يدرج قصة البيت المعمور في حديث أنس، وتارة يفصلها. حين يفصلها تارة يذكر سندها وتارة يبهمه. وقد روى إسحاق في "مسنده" والطبري وغير واحد من طريق خالد بن عرعرة عن علي: ( أنه سئل عن السقف المرفوع قال: السماء) وعن البيت المعمور قال: بيت في السماء بحيال البيت. حرمته في السماء كحرمة هذا في الأرض، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ولا يعودون اليه) وفي رواية للطبري: أن السائل عن ذلك هو عبدالله بن الكوا.

  ولابن مردويه عن ابن عباس نحوه، وزاد: ( وهو على مثل البيت الحرام، لو سقط لسقط عليه) من حديث عائشة. ونحوه بإسناد صالح.
  ومن حديث عبدالله بن عمرو نحوه بإسناد ضعيف. وهو عند الفاكهي في "كتاب مكة" بإسناد  صحيح عنه، لكون موقوفا عليه. وروى ابن مردويه أيضا وابن أبي حاتم من حديث أبي هريرة مرفوعا نحو حديث على وزاد: ( وفي السماء نهر يقال له: نهر الحيوان، يدخله جبريل كل يوم، فينغمس، ثم يخرج فينتفض فيخر عنه سبعون ألف قطرة، يخلق الله من كل قطرة ملكا فهم الذين يصلون فيه، ثم لا يعودون اليه) وإسناده ضعيف. وقد روى ابن المنذر نحوه بدون ذكر النهر من طريق صحيحة عن أبي هريرة، لكن موقوفا.

  وجاء عن الحسن ومحمد بن عباد بن جعفر: أن البيت المعمور هو الكعبة والأول أكثر وأشهر. وأكثر الروايات أنه في السماء السابعة. وجاء من وجه آخر عن أنس مرفوعا أنه في السماء الرابعة، وجزم شيخنا في "القاموس". وقيل: هو في السماء السادسة، وقيل هو تحت العرش. وقيل: إنه بناه آدم لما أهبط الى الأرض، ثم رفع زمن الطوفان. وكأن هذا شبهة من قال: إنه الكعبة ويسمى البيت المعمور. الضراح والضريح.

  واستدل منه على أن الملائكة أكثر المخلوقات لأنه لا يعرف من جميع العوالم ما ينجرد من جنسه في كل يوم سبعون ألف غير ما ثبت عن الملائكة في هذا الخبر.

سدرة المنتهى: 

  ذكرنا ما أخرجه البخاري من حديث مالك بن صعصعة في سدرة المنتهى في شواهد الباب وشواهد البيت المعمور. وضبط قوله: "رفعت" مرة بفتح العين وسكون التاء، ومرة بسكون العين وضم التاء.

  قال الحافظ رحمه الله: ويجمع بين الرواتين، بأن المراد انه رفع اليها: أي ارتقى به وظهرت له. والرفع الى الشيء يطلق على التقريب منه. وقد قيل في قوله تعالى:{ وفرش مرفوعة}: أي تقرب لهم.

  ووقع بيان سبب تسميتها سدرة المنتهى في حديث ابن مسعود عند مسلم ولفظه: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال:" انتهى بي الى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة، واليها ينتهي ما يعرج من الأرض، فيقبض منها، واليها ينتهي ما يهبط فيقبض منها". وقال النووي: سميت سدرة المنتهى لأن علم الملائكة ينتهي اليها ولم يتجاوزها أحد الا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قلت: وهذا لا يعارض حديث ابن مسعود المتقدم. لكن حديث ابن مسعود ثابت في الصحيح، فهو أولى بالاعتماد. قلت: وأورد النووي هذا بصيغة التمريض فقال: وحكى عن ابن مسعود أنها سميت بذلك.. الخ. هكذا أورده، فأشعر بضعفه عنده، ولا سيما ولم يصرح برفعه، وهو صحيح مرفوع.

  وقال القرطبي في "المفهم" ظاهر حديث أنس انها في السابعة، لقوله بعد ذكر السماء السابعة:" ثم ذهب بي الى السدرة". وفي حديث ابن مسعود أنها في السادسة، وهذا تعارض لا شك فيه، وحديث أنس هو قول الأكثر، وهو الذي يقتضيه وصفها بأنها التي ينتهي اليها علم كل نبي مرسل، وكل ملك مقرّب، على ما قاله كعب. قال: وما خلفها غيب لا يعلمه الا الله، أو من أعلمه. وبهذا جزم إسماعيل بن احمد.

  وقال غيره: اليها منتهى أرواح الشهداء. قال: ويترجح حديث أنس بأنه مرفوع، وحديث ابن مسعود موقوف. كذا قال، ولم يعرج على الجمع، بل جزم بالتعارض قلت: ولا يتعارض قوله: أنها في السادسة ما دلت عليه بقية الأخبار، أنه وصل اليها بعد أن دخل السماء السابعة لأنه يحمل على أن أصلها في السماء السادسة، وأغصانها وفروعها في السابعة، وليس في السادسة منها إلا أصل ساقها.

  [وفي] حديث أبي ذر: فغشيها ألوان لا أدري ما هي وبقية حديث ابن مسعود المذكور: قال الله تعالى:{ إذ يغشى السدرة ما يغشى} قال: فراش من ذهب كذا فسر المبهم في قوله:{ ما يغشى} بالفراش. ووقع في رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس:" جراد من ذهب". قال البيضاوي: وذكر الفراش وقع على سبيل التمثيل، لأن من شأن الشجر أن يسقط عليها الجراد وشبهه، وجعلها من الذهب لصفاء لونها وإضاءتها في نفسها. انتهى. ويجوز أن يكون من الذهب حقيقة، ويخلق فيها الطيران، والقدرة صالحة لذلك وفي حديث أبي سعيد وابن عباس:" يغشاها الملائكة" وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي:" على كل ورقة منها ملك" ووقع في رواية  ثابت عن أنس عند مسلم:" فلما غشيها من امر الله ما غشيها تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها" وفي رواية حميد عن أنس عند ابن مردويه نحوه، لكن قال:" تحولت قوتا" ونحوذلك.

  قال ابن دحية: اختيرت السدرة دون غيرها، لأن فيها ثلاثة أوصاف: ظل ممدود وطعام لذيذ، ورائحة زكية، فكانت بمنزلة الايمان الذي يجمع القول والعمل والنية. والظل بمنزلة العمل، والطعم بمنزلة النية، والرائحة بمنزلة القول.

الأنهار التي رآها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: 

  ورد ذكرها فيما أخرجه البخاري من حديث قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة وفيه:" قال: هذه سدرة المنتهى. وإذا بأربعة أنهار: نهران ظاهران ونهران باطنان. فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، واما الظاهران فالنيل والفرات".
  وفي لفظ آخر عن مالك:" في أصلها ـ يعني سدرة المنتهى ـ أربعة أنهار..." الحديث.

  ووقع في رواية شريك:" فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان فقال: ما هذان النهران يا جبريل؟ قال: هذا النيل والفرات، عنصرهما. ثم مضى في السماء فإذا بنهر ىخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فضرب يده فإذا هو مسك أذفر.
قال ما هذا يا جبريل؟ قال: الكوثر الذي خبأ لك ربك.." الحديث.

  قال الحافظ رحمه الله:" ووقع في صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة:
أربعة أنهار في الجنة: النيل والفرات وسيحان وجيجان" فيحتمل أن تكون سدرة المنتهى مغروسة في الجنة، والأنهار تخرج من تحتها، فيصح أنها من الجنة.
قال ابن أبي جمرة: فيه أن الباطن أجل من الظاهر، لأن الباطن جعل في دار البقاء، والظاهر جعل في دار الفناء، ومن ثم كان الاعتماد على ما في الباطن كما قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم:" إن الله لا ينظر الى صوركم ولكن ينظر الى قلوبكم وأعمالكم.".

  [و] وقوله:" وأما الظاهران فالنيل والفرات": وقع في رواية شريك: أنه رأى في السماء الدنيا نهربن يطردان، فقال له جبريل : هما النيل والفرات عنصرهما ـ والعنصر، بضم العين والصاد المهملتين بينهما نون ساكنة: هو الأصل ـ والجمع بينهما، أنه رأى النهرين عند سدرة المنتهى، مع نهري الجنة، ورآهما في الدنيا دون نهري الجنة، وأراد بالعنصر عنصر امتيازهما بسماء الدنيا. كذا قال ابن دحية.

  ووقع في حديث شريك أيضا:" ومضى به يرقى السماء، فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فضرب بيده، فإذا هو مسك أذفر. فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك". ووقع في رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس عند ابن أبي حاتم: أنه بعد أن رأى إبراهيم قال:" ثم انطلق بي على ظهر السماء السابعة حتى انتهى الى نهر عليه خيام اللؤلؤ والياقوت والزبرجد وعليه طير خضر، أنعم طير رأيت. قال جبريل: هذا الكوثر  الذي أعطاك الله، فإذا في آنية الذهب والفضة يجري على رضراض من الياقوت والزمرد، ماؤه أشد بياضا من اللبن. قال: فأخذت من آنيته، فاغترفت من ذلك الماء، فشربت، فإذا هو أحلى من العسل وأشد رائحة من المسك.".

  وفي حديث أبي سعيد:" فإذا فيها عين تجري، يقال لها السلسبيل، فينشق منها نهران: أحدهما الكوثر، والآخر يقال له: نهر الرحمة". قلت: فيمكن أن يفسر بهما النهران الباطنان المذكوران في حديث الباب. وكذا روى عن مقاتل قال: الباطنان: السلسبيل والكوثر.

  وأما الديث الذي أخرجه مسلم بلفظ:" سيحان وجيجان والنيل والفرات من أنهار الجنة"، فلا يغاير هذا، لن المراد ان في الأرض أربعة أنهار أصلها من الجنة، وحينئذ لم يثبت لسيحون وجيجون أنهما ينبعان من اصل سدرة المنتهى، فيمتاز النيل والفرات عليهما بذلك. وأما الباطنان المذكوران في حديث الباب، فهما سيحون وجيجون، والله أعلم.

  قال النووي: في هذا الحديث ان أصل النيل والفرات من الجنة، وانهما يخرجان من أصل سدرة المنتهى، ثم يسيران حيث شاء الله، ثم ينزلان الى الأرض، ثم يخرجان منها، وهذا لا يمنعه العقل، وقد شهد به ظاهر الخبر، فليعتمد. وأما قول عياض: إن الحديث يدل على أن أصل سدرة النتهى في الأرض، لكونه قال: إن النيل والفرات يخرجان من أصلها، وهما بالمشاهدة يخرجان من الأرض، فيلزم منه أن يكون أصل السدرة في الأرض، وهو متعقب: فإن المراد بكونهما يخرجان من أصلها غير خروجهما بالنبع من الأرض.

  والحاصل أن أصلها في الجنة، وهما يخرجان أولا من أصلها، ثم يسيران الى أن يستقراا في الأرض، ثم ينبعان. واستدل به على فضيلة ماء النيل والفرات لكون منبعهما من الجنة، وكذا سيحان وجيجان.

  قال القرطبي: لعل ترك ذكرهما في حديث الاسراء، لكونهما ليسا أصلا برأسهما وإنما يحتمل أن يتفرعا عن النيل والفرات. قال: وقيل: إنما أطلق على هذه الأنهار أنها أنهار تشبيها لها بأنهار الجنة، لما فيها من شدة العذوبة والحسن والبركة.





































هل رأى النبي ربه؟

آراء العلماء.
نفي السيدة عائشة ذلك.
أقوال السلف في الأمر.

هل رأى الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ربه ليلة الاسراء: 

  وقع في رواية سريك المذكورة أولا قوله:" حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا رب العزة فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى الله فيما أوحى: خمسين صلاة على أمتك.. " الحديث.

  وأخرج البخاري عن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: يا أمتاه هل رأى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ربه؟ فقالت: لقد قف شعري مما قلت أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب: من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب. ثم قرأت:{ لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير}، { وما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحيا أو من وراء حجاب}.
ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب. ثم قرأت:{ وما تدري نفس ماذا تكسب غدا}. ومن حدثك أنه كتم فقد كذب. ثم قرأت:{ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك} الآية.  

  ولكن رأى جبريل عليه السلام في صورته مرتين.
صحيح البخاري" ـ حديث أشنع ظاهرا ولا أشنع مذاقا من هذا الفضل، فإنه يقتضي تحديد المسافة بين أحد المذكورين وبين الآخر، وتمييز ما كان كل واحد منهما. هذا، الى ما في التدلي من التشبيه والتمثيل له بالشيء الذي تعلق من فوق الى أسفل.

  قال: فمن لم يبلغه من هذا الحديث إلا هذا القدر مقطوعا عن غيره. ولم يعتبره بأول القصة وآخرها، اشتبه عليه وجهه ومعناه. وكان قصاراه إما رد الحديث من أصله، وإما الوقوع في التشبيه. وهما خطئان مرغوب عنهما. وأما من اعتبر أول الحديث بآخره، فإنه يزول عنه الاشكال، فإنهما مصرح فيهما بأنه كان رؤيا، لقوله في أوله: (وهو نائم)، في آخره: (استيقظ). وبمعنى الرؤيا مثل يضرب. ليتأول على الوجه الذي يجب أن يصرف اليه معنى التعبير في مثله. وبعض الرؤيا لا يحتاج الى ذلك، بل يأتي كالمشاهدة.

  قلت وهو كما قال: ولا التفات الى تعقب كلامه بقوله في الحديث الصحيح: " إن رؤيا الأنبياء وحي"، فلا يحتاج الى تعبير، لأنه كلام من لم يمعن النظر في هذا المحل، (فإن) بعض مرأى الأنبياء يقبل التعبير: ومن أمثلة ذلك قول الصحابة له صلى الله عليه وعلى آله وسلم في رؤية القميص: فما أولته يا رسول الله؟ قال:"الدين". وفي رؤية اللبن؟ قال:" العلم" الى غير ذلك.

  لكن جزم الخطابي بأنه كان في المنام متعقب بما تقدم تقريره قبل. ثم قال الخطابي مشيرا الى رفع الحديث من أصله: بأن القصة بطولها إنما هي حكاية يحكيها أنس من تلقاء نفسه، لم يعزها الى النبي صلى الله عليه ولى آله وسلم، ولا نقلها عنه، ولا أضافها الى قوله. فحاصل الأمر في النقل، أنها من جهة الراوي: إما من أنس وإما من شريك، فإنه كثير التفرد بمناكير الألفاظ التي لا يتابعه عليها سائر الرواة. انتهى.

  وما نفاه من أن أنسا لم يسند هذه القصة الى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا تأثير له، فأدنى أمره فيها أن يكون مرسل صحابي، فإما يكون تلقاه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو عن صحابي تلقاه عنه، ومثيل ما اشتملت عليه لا يقال بالرأي، فيكون لهما حكم الرفع. ولو كان لما ذكرهتأثير، لم يحمل حديث أحد رويمثل ذلك على الرفع أصلا، وهو خلاف عمل المحدثين قاطبة فالتعليل بذلك مردود.

  ثم قال الخطابي: إن الذي وقع في هذه الرواية من نسبة التدلي للجبار عز وجل مخالف لعامة السلف والعلماء وأهل التفسير، ومن تقدم منهم ومن تأخر قال: والذي قيل فيه ثلاثة أقوال:

  أحدها: أنه دنا جبريل من محمد صلى الله عليه وعلى آله فتدلى: أي تقرب منه. وقيل: هو على التقديم والتأخير، أي تدلى فلانا، لأن التدلي بسبب الدنو.

  الثاني: تدلى له جبريل بعد الانتصاب والارتفاع، حتى رآه متدليا كما رآه مرتفعا، وذلك  من آيات الله، حيث أقدره على أن يتدلى في الهواء من غير اعتماد على شيء ولا تمسك  بشيء.

  الثالث: دنا جبريل فتدلى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ساجدا لربه تعالى: شكرا على ما أعطاه.

  قال: وقد روى هذا الحديث عن أنس من غير طريق شريك فلم يذكر فيه هذه الألفاظ الشنيعة، وذلك مما يقوي الظن أنها صادرة من جهة شريك وقد أخرج الأموي في "مغازيه"، ومن طريقه البيهقي عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن ابن عباس في قوله تعالى:{ ولقد رآه نزلة أخرى} قال: فدنا منه ربه" وهذا سند حسن، وهو شاهد قوي لرواية شريك. ثم قال الخطابي: في هذا الحديث لفظة أخرى تفرد بها شريك أيضا لم يذكرها غيره، وهي قوله: (فعلا به ـيعني جبريل ـ الى الجبار تعالى فقال وهو مكانه: يا رب خفف عنا). قال: والمكان لا يضاف الى الله تعالى، إنما هو مكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في مقامه الأول، الذي قام فيه قبل هبوطه. انتهى.

  وهذا الأخير متعين، وليس في السياق تصريح بإضافة المكان الى الله تعالى. وأما ما جزم به به من مخالفة السلف والخلف لرواية شريك عن أنس في التدلي ففيه نظر، فقد ذكرت من وافقه.

  وقد نقل القرطبي عن ابن عباس أنه قال: ( دنا الله سبحانه وتعالى) (قال: والمعنى: دنا أمه وحكمه، وأصل التدلي النزول الى الشيء حتى يقرب منه. قال: وقد قيل: تدلى الرفرف لمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم من ربه. انتهى.

  والمراد بقوله: (رآه) أن النبي صلى الله عليه على آله وسلم رأى جبريل، له ستمائة جناح، (وسيأتي) بسط القول في ذلك. ونقل البيهقي نحو ذلك عن أبي هريرة. قال: فاتفقت روايات هؤلاء على ذلك، ويعكرعليه قوله بعد ذلك:{ فأوحى الى عبده ما أوحى}. ثم نقل عن الحسن: أن الضمير في {عبده} لجبريل، والتقدير: فأوحى الله الى جبريل. وعن الفراء: التقدير: فأوحى الله الى عبدالله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما أوحى. وقد أزال العلماء اشكاله. فقال القاضي عياض في "الشفاء":

  إضافة الدنو والقرب الى الله تعالى، أو من الله ليس دنو مكان ولا قرب زمان، وإنما هو بالنسبة الى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. إبانة لعظيم منزلته وشريف رتبته، وبالنسبة الى الله عز وجل تأنيس لنبيه وإكرام له. ويتأول فيه ما قالوه في حديث:" ينزل ربنا الى السماء".

  وكذا في حديث:" من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا". وقال غيره الدنو مجاز عن القرب المعنوي، لإظهار عظيم منزلته عن ربه تعالى، والتدلي طلب زيادة القرب، (وقاب قوسين) بالنسبة الى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عبارة عن لطف المحل وإيضاح المعرفة، وبالنسبة الى الله إجابة سؤاله ورفع درجته.   

  وقال عبدالحق في "الجمع بين الصحيحين": زاد فيه ـيعني شريكا ـ زيادة مجهولة وأتى فيه بألأفاظ غير معروفة، وقد روى الاسراء جماعة من الحفاظ، فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك، وشريك ليس بالحافظ.

  وسبق الى ذلك أبو محمد بن حزم، فيما حكاه لحافظ أبو الفضل بن طاهر في جزء جمعه سماه:" الانتصار لأيامي الأمصار". فنقل فيه عن الحميدي عن ابن حزم قال: لم نجد للبخاري ومسلم في كتابيهما شيئا لا يحتمل مخرجا الا حديثين، ثم غلبه في تخريجه الوهم، مع إتقانهما وصحة معرفتما...

  فذكر هذا الحديث وقال: فيه ألفاظ معجمة، والآفة من شريك. ومن ذلك قوله: ( قبل أن يوحى اليه)، وأنه حينئذ فرض الصلاة. قال: وهذا لا خلاف بين أحد من أهل العلم إنما كان قبل الهجرة بسنة، وبعد أن أوحى اليه بنحو اثنتي عشرة سنة. ثم قوله: ( إن الجبار دنا فتدلى) حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى)، وعائشة رضي الله عنها تقول: إن الذي دنا فتدلى جبريل. انتهى.

  وقال أبو الفضل بن طاهر: تعليل الحديث بتفرد شريك ودعوى ابن حزم أن الآفة منه، شيء لم يسبق اليه. فإن شريكا قبله أئمة الجرح والتعديل ووثقوه، ورووا عنه، وأدخلوا أحاديثه في تصانيفهم، واحتجوا به. وروى عبدالله بن أحمد الدورقي وعثمان الدرامي وعباس الدوري، عن يحيى بن معين: لا بأس به. وقال ابن عدي: مشهور من أهل المدينة حدث عنه مالك وغيره من الثقات، وحديثه إذا روى عنه ثقة لا بأس به، إلا أن يروي عنه ضعيف. قال طاهر بن طاهر: وحديثه هذا رواه عن ثقة وهو سليمان بن بلال. قال: وعلى تقدير تسليم تفرده: ( قبل أن يوحى اليه) لا يقتضي طرح حديثه، فوهم الثقة في موضع من الحديث، لا يسقط جميع الحديث، ولا سيما إذا كان الوهم لا يستلزم ارتكاب محذور، ولو ترك حديث من وهم في تاريخ لترك حديث جماعة من أئمة المسلمين.
ولعله أراد أن يقول: ( بعد أن وحى اليه) فقال: (قبل أن يوحى اليه).

  وقد سبق التنبيه على ما في رواية شريك من المخالفة مسلم في (صحيحه) فإنه قال بعد أن ساق سنده وبعض المتن، ثم قال: فقدم وأخر وزاد ونقص. وسبق ابن حزم أيضا الى الكلام في شريك أبو سليمان الخطابي، كما قدمته. وقال فيه النسائي وأبو محمد بن الجارود: ليس بالقوي. وكان يحيى بن سعد القطان لا يحدث عنه، نعم، قال محمد بن سعد وأبو داود. ثقة. فهو مختلف فيه، فإذا تفرد عد ما يتفرد به شاذا، وكذا منكرا، على رأى من يقول: المنكر والشاذ شيء واحد. والأولى الالتزام ورود المواضع التي خالف فيها غيره والجواب عنها، إما بدفع فرده وإما بتأويله على وفاق الجماعة.

  ومجموع ما خالفت فيه رواية شريك غيره من المشهورين عشرة أشياء، بل تزيد على ذلك:

الأول: أمكنة الأنبياء عليهم السلام في السماوات. وقد أفصح بأنه لم يضبط منازلهم، وقد وافقه الزهري في بعض ما ذكر ( يعني في رواية أبي ذر).

  الثاني: كون المعراج قبل البعثة. وقد سبق الجواب عن ذلك. وأجاب بعضهم على قوله: ( قبل أن يوحى اليه)، بأن القبلية هنا أمر مخصوص وليست مطلقة، واحتمل أن يكون المعنى: قبل أن يوحى اليه في شأن الاسراء والمعراج مثلا، أي ذلك وقع بغتة قبل أن ينذر به، ويؤيده قوله في حديث الزهري ـ يعني حديث أبي ذر ـ :"فرج سقف بيتي".

  الثالث: كونه مناما. وقد سبق الجواب عنه أيضا بما فيه من غنية.

  الرابع: نخالفته في محل سدرة المنتهى، وأنها فوق السماء السابعة بما لا يعلمه الا الله، والمشهور أنها في السابعة أو السادسة كما تقدم.

  الخامس: مخالفته في النهرين، وهما النيل والفرات، وأن عنصرهما في السماء الدنيا، والمشهور في غير روايته أنهما في السماء السابعة، وأنهما من تحت سدرة المنتهى.

  السادس: شق الصدر، وقد وافقته رواية غيره، كما بينت في شرح رواية قتادة عن أنس بن مالك بن صعصعة.

  السابع: ذكر نهر الكوثر في السماء الدنيا. والمسهور في الحديث أنه في الجنة كما تقدم التنبيه عليه.

  الثامن: نسبة الدنو والتدلي الى الله عز وجل. والمشهور في الحديث أنه جبريل كما تقدم التنبيه عليه.

  التاسع: تصريحه بأن امتناعه صلى الله علي وعلى آله وسلم من الرجوع الى سؤال ربه التخفيف كان عند الخامسة. ومقتضى رواية ثابت عن أنس أنه كان بعد التاسعة.

  العاشر: قوله: (فعلا به الجبار، فقال وهو مكانه) وقد تقدم ما فيه.

  الحادي عشر: رجوعه بعد الخمس. والمشهور في الأحاديث أن موسى عليه الصلاة والسلام أمره بالرجوع بعد أن انتهى التتخفيف الى الخمس، فامتنع. (والمحفوظ أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لموسى في الأخيرة:" استحييت من ربي" وهذا أصرح بأنه راجع في الأخيرة.

  الثاني عشر: زيادة ذكر "التور" في الطست.

  فهذه أكثر من عشرة مواضع في هذا الحديث أنا لم أرها مجموعة في كلام أحد مما تقدم، وقد بينت في كل واحد إشكال ما استشكله والجواب عنه إن أمكن، وبالله التوفيق.

  وقد جزم ابن القيم في "الهدى" بأن في رواية شريك عشرة أوهام، لكن عد مخالفته لمحال الأنبياء أربعة منها، وأنا جعلتها واحدة. فعلى طريقته تزيد العدة ثلاثة. وبالله التوفيق.

  عائشة تنفي رؤية الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: 
  وقال الحافظ رحمه الله تعالى في شرح حديث مسروق عن عائشة في نفيها رؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه.

  [و] في رواية الترمذي زيادة قصة في سياقه، فأخرج من طريق مجالد عن الشعبي قال: ( لقي ابن عباس كعبا بعرفة، فسأله عن شيء، فكبر كعب حتى جاوبته الجبال، فقال ابن عباس: إنا بن هاشم. فقال له كعب: إن الله قسم رؤيته وكلامه).

  هكذا في سياق الترمذي. وعند عبد الرزاق من هذا الوجه. ( فقال ابن عباس:  إنا بنو هاشم نقول: إن محمدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فكلم موسى مرتين ورآه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم مرتين. قال مسروق فدخلت على عائشة فقلت. هل رأى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ربه..) الحديث.

  ولابن مردويه من طريق اسماعيل بن أبي خالد الشعبي عن عبدالله بن الحارث بن نوفل، عن كعب مثله. قال: ـيعني الشعبي ـ : فأتى مسروق عائشة.. فذكر الحديث.
فظهر بذلك سبب سؤال مسروق لعائشة عن ذلك.

  قال النووي تبعا لغيره: لم تنف عائشة وقوع الرؤية بحديث مرفوع، ولو كان معها لذكرته، وإنما اعتمدت على الاستنباط على ما ذكرته من ظاهر الآية، وقد خالفها غيرها من الصحابة.

  والصحابي اذا قال قولا وخالفه غيره منهم، لم يكن ذلك القول حجة اتفاقا.

  والمراد بالادراك في الآية الاحاطة، وذلك لا ينافي الرؤية. انتهى.

  وجزمه بأن عائشة لم تنف الرؤية بحديث مرفوع، تبع فيه ابن خزيمة، فإنه قال في "كتاب التوحيد" من " صحيحه": النفي لا يوجب علما، ولم تحك عائشة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبرها أنه لم ير ربه،  وإنما تأولت الآية. انتهى.

  وهو عجيب، فقد ثبت ذلك عنها في "صحيح مسلم" الذي شرحه الشيخ، فعنده من طريق داود بن أبي هند عند الشعبي عن مسروق: ( وكنت متكئا فجلست فقلت: ألم يقل {ولقد رآه نزلة أخرى}؟ فقالت: أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ذلك، فقال: إنما هو جبريل). وأخرجه ابن مردويه من طريق أخرى عن داود بهذا الاسناد: ( فقالت: أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وعلىآله وسام عن هذا، فقلت يا رسول الله، هل رأيت ربك؟ فقال: لا إنما رأيت جبريل منهبطا).

  نعم احتجاج عائشة بالآية المذكورة خافها فيه ابن عباس. فأخرج الترمذي من طريق الحكم بأن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: { رأى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ربه قال: ( رأى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ربه. قلت: أليس الله يقول{ لا تدركه الأبصار}؟ قال: ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره وقد رآى ربه مرتين).

  وحاصله أن المراد بالآية نفي الاحاطة به عند رؤياه، لا نفي أصل رؤياه. واستدل القرطبي في "المفهم"  ( بأن) الادراك لا ينافي الرؤية بقوله تعالى حكاية عن أصحاب موسى:{ فلما تراءى الجمعان، قال أصحاب موسى: إنا لمدركون قال: كلا} وهو استدلال عجيب، لأن متعلق الادراك في آية الأنعام البصر، فلما نفى، كان ظاهره نفي الرؤية، بخلاف الادراك الذي في قصة موسى. ولولا وجود الأخبار بثبوت الرؤية، ما ساغ العدول عن الظاهر.

  ثم قال القرطبي "الأبصار" في الآية جمع محلى بالألف واللام، فيقبل التخصيص، وقد ثبت دليل ذلك سمعا في قوله تعالى:{ كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون}. فيكون المراد بالكفار، بدليل قوله تعالى في الآية الأخرى:{ وجوه يومئذ ناضرة، الى ربها ناظرة}. قال: وإذا جازت في الآخرة جازت في الدنيا، لتساوي الوقتين بالنسبة الى المرئي. انتهى وهو استدلال جيد.

  وقال عياض: رؤية الله سبحانه وتعالى جائزة عقلا، وثبتت الأخبار الصحيحة المشهورة بوقوعها للمؤمنين في الآخرة. وأما في الدنيا فقال مالك: إنما لم ير سبحانه في الدنيا لأنه باق، والباق لا يرى بالفاني. فإذا كان في الآخرة، ورزقوا أبصارا باقية، رأوا الباقي بالباقي. قال عياض: وليس في هذا الكلام استحالة الرؤية الا من حيث القدرة، فإذا قدر الله من شاء من عباده عليها لم يمتنع.

  قلت: ووقع في " صحيح مسلم" ما يؤيد هذه التفرقة في حديث مرفوع، فيه " واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا". وأخرجه ابن خزيمة أيضا من حديث أبي أمامة، ومن حديث عبادة بن الصامت. فإن جازت الرؤية في الدنيا عقلا فقد امتنعت سمعا، لكن من أثبتها للنبي صلى الله عليه وسلم له أن يقول: إن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه.

  أقوال السلف في رؤية النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ربه: 

  وقد اختلف السلف في رؤية النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ربه: فذهبت عائشة وابن مسعود الى إنكارها، واختلف عن أبي ذر، وذهب جماعة الى إثباتها. وحكى عبدالرزاق عن معمر عن الحسن أنه حلف أن محمدا رأى ربه. وأخرج ابن خزيمة عن عروة بن الزبير إثباتها، وكان يشتد عليه إذا ذكر له إنكار عائشة، وبه قال سائر أصحاب ابن عباس، وجزم به كعب الأحبار والزهري وصاحبه معمر وآخرون، وهو قول الأشعري وغالب أتباعه. ثم اختلفوا: هل رآه بعينه أو بقلبه؟ وعن أحمد كالقولين:

  قلت: جاءت عن ابن عباس أخبار مطلقة وأخرى مقيدة، ثيجب حمل مطلقها على مقيدها. فمن ذلك ما أخرجه النسائي بإسناد صحيح وصححه الحاكم أيضا، من طريق عكرمة عن ابن عباس: ( هل رأى محمد ربه؟ فأرسل اليه: أن نعم) ومنها ما أخرجه مسلم من طريق أبي العالية عن ابن عباس في قوله تعالى:{ ما كذب الفؤاد ما رأى. ولقد رآه نزلة أخرى}ْ قال: ( رأى ربه بفؤاده مرتين). وله من طريق عطاء عن ابن عباس قال: (رآه بقلبه). وأصرح من ذلك ما أخرجه ابن مردويه من طريق عطاء أيضا عن ابن عباس قال: ( لم ريه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعينه، إنما رآه بقلبه). 

  وعلى هذا، فيمكن الجمع بين غثبات إبن عباس وبين نفي عائشة، لان يحمل نفيها على رؤية البصر، وإثباته على رؤية القلب. ثم المراد برؤية الفؤاد: رؤية القلب، لا مجرد حصول العلم، لأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان عالما بالله على الدوام، بل مراد من أثبت له انه رآه بقلبه، أن الرؤية التي حلصلت له خلقت في قلبه كما يخلق الرؤية بالعين لغيره. والرؤية لا يشترط لها شيء مخصوص عقلا، ولوجرت العادة بخلقها في العين.

  وروى ابن خزيمة بإسناد قوي عن أنس قال: (رأى محمد ربه). وعن مسلم من حديث أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ذلك فقال: (نور أني أراه) ولأحمد عنه قال: " رأيت نورا" ولابن خزيمة عنه قال:" رآه بقلبه ولم يره بعينه". وبهذا يتبين مراد أبي ذر بذكره النور، أيب النور حال بين رؤيته له ببصره وقد رجح القرطبي في "المفهم" قول الوقف في هذه المسألة، وعزاه لجماعة من المحققين، وقواه بأنه ليس في الباب دليل قاطع، وغاية ما استدل به للطائفتين ظواهر متعارضة قابلة للتأويل. قال: وليست المسألة من العمليات فيكتفي بالأدلة الظنية، وإنما هي من المعتقدات فلا يكفي  فيها الا بالدليل القطعي وجنح ابن خزيمة في " كتاب التوحيد" الى ترجيح الاثبات وأطنب في الاستدلال له بما يطول ذكره، وحمل ما ورد عن ابن عباس، على أن الرؤيا وقعت مرتين: مرة بعينه ومرة بقلبه، وفيما أوردته من ذلك فقنع.

  وممن أثبت الرؤية لنبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم الامام أحمد، فروى الخلال في "كتب السنة" عن المروزي: قلت لأحمد: إنهم يقولون: إن عائشة قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية. فبأي شيء يدفع قولها؟ قال: يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:" رأيت ربي" قول النبي صلى الله عليه وعلىآله وسلم أكبر من قولها.

  وقد أنكر صاحب "الهدى" على من زعم أن أحمد قال: رأى ربه بعيني رأسه قال:  وإنما قال مرة: رأى محمد ربه، وقال مرة: بفؤاده. وحكى عن بعض المتاخرين رآه بعيني رأسه. وهذا من تصرف الحاكي، فإن نصوصه موجودة. ثم قال: ينبغي ان يعلم الفرق بين قولهم: كان الاسراء مناما، وبين قولهم: كان بروحه دون جسده فإن بينهما فرقا فإن الذي يراه النائم يكون حقيقة بأن تصعد الروح مثلا الى السماء، وقد يكون من ضرب المثل أن يرى النائم ذلك وروحه لم تصعد أصلا. فيحتمل من قال: أسرى بروحه ولم يصعد جسده، أراد أن روحه عرج بها حقيقة فصعدت ثك رجعت، وجسده باق في مكانه خقا للعادة. كما أنه في تلك الليلة شق صدره والتأم وهو حي يقظان، لا يجد بذلك ألما. انتهى.

  وظاهر الأخبار الورادة في الاسراء تأبى الحمل على ذلك، بل أسرى بجسده وروحه ، وعرج بهما حقيقة، في اليقظة لا مناما ولا استغراقا، والله أعلم.

  قال الحافظ رحمه الله: ولمسلم عن مسروق أنه أتاه في هذه المرة [يعني جبريل] في صورته التي هي صورته، فسد أفق السماء. وله في رواية داود ابن أبي هند:" رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض" وللنسائي من طريق عبدالرحمن بن يزيد عن ابن مسعود: ابصر جبريل ولم يبصر به".

  وأخرجه البخاري عن زر عن عبدالله ـ يعني ابن مسعود:{ فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى الى عبده ما أوحى} قال ـ يعني زرا: حدثنا ابن مسعود: أنه رأى جبريل له ستمائة جناح.

  وأخرج عنه أيضا: { لقد رأى من آيات ربه الكبرى} قال: رأى رفرفا أخضر قد سد الأفق.

  قال الحافظ رحمه الله: هذا ظاهره يغاير التفسير السابق أنه رأى جبريل، ولكن يوضح المراد ما أخرجه النسائي والحاكم من طريق عبدالرحمن بن يزيد عن عبدالله بن مسعود قال: ( أبصر نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم جبريل عليه السلام على رفرف، قد ملأ ما بين السماء والأرض). فيجتمع من الحديثين ان الموصوف جبريل، والصفة التي كان عليها.

  وفي رواية أحمد والترمذي وصححها من طريق عبدالرحمن بن يزيد عن ابن مسعود ( رأى جبريل في حلة من رفرف، قد ملأ ما بين السماء والأرض).

  وبهذه الرواية يعرف المراد بالرفرف، وأنه حلة. ويؤيده قوله تعالى:{ متكئين على رفرف} وأصل الرفرف: ما كان من الديباج رفيقا حسن الصنعة، ثم اشتهر استعماله في الستر، وكان ما فضل من شيء وثنى فهو رفرف. ويقال: رفرف الطائر بجناحيه: إذا بسطهما. وقال بعض الشراح: يحتمل أن يكون جبريل بسط أجنحته، فصارت تشبه الرفرف. كذا قال، والرواية التي أوردتها توضح المراد.


















الاسراء وقضاياه

لماذا بيت المقدس؟
هل كان مناما أو يقظة؟
هل كان الاسراء والمعراج في ليلة واحدة؟
هل تعدد الاسراء؟

هداية رسول الله الى الفطرة: 

  أخرج البخاري رحمه الله من حديث ابي هريرة: أتى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليلة أسري به بإيلياء بقدحين من خمر ولبن. فنظر اليهما، فأخذ اللبن. قال جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك. واخرج من حديث مالك بن صعصعة:" ثم رفع لي البيت المعمور. ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك..".

  ةأخرج عن شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك معلقا بصيغة الجزم. ووصله أبو عوانة والاسماعيلي والطبراني في الصغير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:" ورفعت الى السدرة، فإذا أربعة أنهار: نهران ظاهران، ونهران باطنان. فأما الظاهران فالنيل والفرات، واما الباطنان فنهران في الجنة. فأتيت بثلاثة أقداح: قدح فيه لبن وقدح فيه عسل، وقدح فيه خمر، فأخذت الذي فيه اللبن، فشربت، فقيل لي: أصبت الفطرة أنت وأمتك".

 قال البخاري: وقال هشام وسعيد وهمام عن قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأنهار ونحوه ولم يذكروا ثلاثة أقداح.

  قل الحافظ رحمه الله: قال القرطبي: يحتمل  أن يكون سبب تسمية اللبن  فطرة، لأنه أول شيء يدخل بطن المولود ويشق أمعاءه والسر في ميل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم اليه دون غيره، لكونه كان مألوفا له، ولأنه لا ينشأ عن جنسه مفسدة.

  وقد وقع (رواية قتادة عن أنس بن مالك بن صعصعة) أن إتيانه الآنية كان بعد وصوله الى سدرة المنتهى  (كما في رواية) شعبة عن قتادة عن أنس إلا أن شعبة لم يذكر في الاسناد  مالك بن صعصعة (رغم موافقته لروايته) وفي حديث أبي هريرة عند ابن عائذ في حديث المعراج بعد ذكر إبراهيم قال:" ثم انطلقنا، فإذ نحن بثلاثة أنية مغطاة. فقال جبريل: يا محمد ألا تشرب  مما سقاك ربك؟ فتناولت إحداها، فإذا هو عسل، فشربت منه قليلا، ثم تناولن الآخر، فإذا هو لبن، فشربت منه حتى رويت. فقال: ألا تشرب من الثالث؟ قلت: قد رويت. قال: وفقك الله.

  وفي رواية البزار من هذا الوجه، أن الثالث كان خمرا، لكن وقع عنده أن ذلك كان ببيت المقدس، وأن الأول كان ماء، ولم يذكر العسل. وفي حديث ابن عباس عند احمد: ( فلما أتى المسجد الأقصى، قام يصلي، فلما انصرف جيء بقدحين في أحدهما لبن وفي الآخر عسل، فأخذ اللبن..) الحديث.

  وقد وقع عند مسلم من طريق ثابت عن أنس أيضا: إن إتيانه بالآنية كان ببيت المقدس، قبل المعراج، ولفظه: ثم دخلت المسجد، فصليت فيه ركعتين ثم خرجت، فجاء جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فأخذت اللبن، فقال جبريل: أخذت الفطرة. ثم عرج الى السماء.

   وفي حديث شداد بن أوس:" فصليت في المسجد حيث شاء الله، وأخذني من العطش أشد ما أخذني، فأتيت بإناءين: أحدهما لبن والآخر عسل، فعدلت بينهما، ثم هداني الله فأخذت اللبن فقال شيخ بين يدي ـ يعني لجبريل ـ : أخذ صاحبك الفطرة".

  وفي حديث أبي سعيد عند ابن اسحاق في قصة الاسراء: ( فصلى بهم ـ يعني بالأنبياء ـ ثم أتى بثلاثة آنية: إناء فيه لبن، وإناء فيه خمر وإناء فيه ماء فاخذت اللبن..) الحديث.

  وفي مرسل السحن عند نحوه، لكن لم يذكر إناء الماء.

  ووقع بيان مكان عرض الآنية في رواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عند المصنف (يعني البخاري)، ولفظه: ( أتى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليلة أسري به بإيلياء بإناء فيه خمر، وإناء فيه لبن، فنظر إليهما، فأخذ اللبن، فقال له جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو اخذت الحمر غوت أمتك) وهو عند مسلم.

  وفي رواية عبدالرحمن بن هشام بن عتبة عن أنس عند البيهقي: ( فعرض عليه الماء والخمر واللبن، فأخذ اللبن، فقال له جبريل: أصبت الفطرة، ولو شربت الخمر لغويت وغوت أمتك). وبجمع بين هذا الاختلاف، إما بحمل (ثم) على غير بابها من لترتيب، وأنما هي بمعنى الواو هنا، وإما بوقوع عرض الآنية مرتين: مرة عند فراغه من الصلاة ببيت المقدس، وسببه ما وقع له من العطش، وسببه عند وصوله الى سدرة المنتهى ورؤية الأنهار الأربعة.

  أما الاختلاف ففي عدد الآنية وما فيها، فيحتمل على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر، ومجموعها أربعة آنية، فيها أربعة أشياء، من الأنهار الأربعة التي رآها تخرج من أصل سدرة المنتهى.

  ووقع في حديث أبي هريرة عند الطبري، لما ذكر سدرة المنتهى: يخرج ( من أصلها أنهار من ماء غير آسن، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن خمرة لذة للشاربين، ومن عسل مصفى) فلعله عرض عليه من كل نهر إناء. وجاء عن كعب: ان نهر العسل نهر النيل، ونهر اللبن نهر جيجان، ونهر الخمر نهر الفرات، ونهر الماء سيحان، والله أعلم.

  قال ابن المنير: لم يذكر السر في عدوله عن العسل الى اللبن كما ذكر السر في عدوله عن الخمر، ولعل السر في ذلك كون اللبن أتفع، وبه يستد العظم وينبت اللحم، وهو بمجرده قوت، ولا يدخل في السرف بوجه، وهو أقرب الى الزهد ولا منافاة بينه وبين الورع بوجه. والعسل وإن كان حلالا، لكنه من المستلذات التي قد يخشى على صاحبها، أن يندرج في قوله تعالى:{ أذهبتم طيباتكم}  قلت: ويحتمل أن يكون السر فيه ما وقع في بعض طرق الاسراء، أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم عطش ـ  كما تقدم ـ فأتى بالأقداح، فآثر اللبن دون غيره، لما فيه من حصول دون الخمر والعسل فهذا هو السبب الأصلي في إيثار اللبن، وصادف مع ذلك رجحانه عليهما من عدة جهات. قال ابن المنير: ولا يعكر  على ما ذكرته أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يحب الحلوى والعسل، لأنه إنما كان يحبه مقتصدا في تناوله، لا في جعله ديدنا ولا تطعا.