الأربعاء، 16 أكتوبر 2013

دعوة الاسلام الحقيقية فى تقرير المبادىء الاخلاقيه

فقد قرر وحدة الجنس والنسب للبشر جميعا , (فالناس لآدم ولا فضل لعربي على عجمي ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى) , وحكمة التقسيم إلى شعوب وقبائل إنما هي التعارف لا التخالف والتعاون لا التخاذل , والتفاضل بالتقوى والأعمال الصالحة التي تعود بالخير على المجموع والأفراد , والله رب الجميع يرقب هذه الأخوة ويرعاها , ويطالب عباده جميعا بتقريرها ورعايتها , والشعور بحقوقها والسير في حدودها.
ويعلن القرآن الكريم هذه المعاني جميعا في بيان ووضوح فيقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) فاتحة سورة النساء . ويقول النبي محمد r في أشهر خطبه في حجة الوداع: (إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعظمها بالآباء والأجداد , الناس لآدم ، وآدم من تراب لا فضل لعربي على عجمي ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى) ويقول: (ليس منا من دعا إلى عصبية ، وليس منا من قاتل على عصبية ، وليس منا من مات على عصبية) رواه أبو داود.
وبهذا التقرير قضى الإسلام تماما على التعصب للأجناس أو الألوان في الوقت الذي لا تزال فيه الأمم المتحضرة من أوربا وأمريكا تقيم كل وزن لذلك , وتخصص أماكن يغشاها البيض ويحرم منها السود حتى في معابد الله ، وتضع القوائم الطويلة للتفريق بين الأجناس الآرية والسامية ، وتدّعي كل أمة أن جنسها فوق الجميع.

وقرر الإسلام وحدة الدين في أصوله العامة , وأن شريعة الله تبارك وتعالى للناس تقوم على قواعد ثابتة من الإيمان والعمل الصالح والإخاء , وأن الأنبياء جميعا مبلغون عن الله تبارك وتعالى , وأن الكتب السماوية جميعا من وحيه , وأن المؤمنين جميعا في أية أمة كانوا هم عباده الصادقون الفائزون في الدنيا والآخرة , وأن الفرقة في الدين والخصومة باسمه إثم يتنافى مع أصوله وقواعده , وأن واجب البشرية جميعا أن تتدين وأن تتوحد بالدين ، وأن ذلك هو الدين القيم وفطرة الله التي فطر الناس
عليها ، وفى ذلك يقول القرآن الكريم: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا) (الشورى:13) , ويقول القرآن الكريم مخاطبا النبي محمد r: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (الشورى:15) ، ويقول النبي محمد rمصورا هذا المعنى أبدع تصوير: (مثلى ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطرفون به ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة ، فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين) أخرجه الشيخان.
وسلك الإسلام إلى هذه الوحدة مسلكا عجيبا , فالمسلم يجب عليه أن يؤمن بكل نبي سبق ويصدق بكل كتاب نزل , ويحترم كل شريعة مضت , ويثنى بالخير على كل أمة من المؤمنين خلت ، والقرآن يفترض ذلك ويعلنه ويأمر به النبي وأصحابه: (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:136) , ثم يقفي على ذلك بأن هذه هي سبيل الوحدة ، وأن أهل الأديان الأخرى إذا آمنوا كهذا الإيمان فقد اهتدوا إليها وإن لم يؤمنوا به فسيظلون في شقاق وخلاف وأن أمرهم بعد ذلك إلى الله فيقول : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:137).
ويدعم هذه الوحدة بين المتدينين والمؤمنين على أساسين واضحين مسّلمين لا يجادل فيهما إلا مكابر:
أولهما: اعتبار ملة إبراهيم عليه السلام أساسا للدين وإبراهيم , ولا شك وهو مرجع الأنبياء الثلاثة الذين عرفت رسالاتهم وهم: موسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم جميعا.
وثانيهما: تجريد الدين من أغراض البشر وأهوائهم , والارتفاع بنسبته إلى الله وحده فتقرأ في سورة البقرة قوله تعالى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)  إلى قوله تعالى: (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ , قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) , ثم إلى قوله تعالى: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الآيات 130-141.
إن القرآن يثني على الأنبياء جميعا فموسى نبي كريم : (وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) (الأحزاب:69) , وعيسى عليه السلام (رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) (النساء:171) , (وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ , وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران:45-46) , (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) (المائدة:75) , أكرمتها الملائكة (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران:42).
والتوراة كتاب كريم (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ) (المائدة:44) , والإنجيل كذلك كتاب كريم فيه هدى ونور وموعظة (وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) (المائدة:46) , وهما والقرآن معهما مصابيح الهداية للناس (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ) (آل عمران:3).
وبنو إسرائيل أمة موسى أمة كريمة مفضلة ما استقامت وآمنت (يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة:122) , وأمة عيسى عليه السلام أمة فاضلة طيبة ما أخلصت (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً) (الحديد:27).
والتعامل بين المسلمين وبين غيرهم من أهل العقائد والأديان إنما يقوم على أساس المصلحة الاجتماعية والخير الإنساني , (لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ , إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة:8-9).
والجدال يكون بالتي هي أحسن إلا للذين ظلموا , وأساسه التذكير بروابط الرسالة السماوية ووحدة العقيدة الإيمانية (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (العنكبوت:46).
وبذلك قضى الإسلام على كل مواد الفرقة والخلاف والحقد والبغضاء والخصومة بين المؤمنين من أي دين كانوا , ولفتهم جميعا إلى وجوب التجمع حول "شريعة الإسلام" ونبذ كل ما من شأنه العداوة والخصام بين بنى الإنسان , (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:62).
فإن أبى الناس إلا أن يفترقوا ويختلفوا ويحتكموا إلى أهوائهم باسم الدين فإن الإسلام وبني الإسلام وشريعة الإسلام الإنسانية العامة منهم براء (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ , مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ , قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ , قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام:159-163).
ولهذا جاء النبي محمد "عليه الصلاة والسلام" رسولا عالميا لا رسولا إقليميا وأعلن القرآن الكريم هذه العالمية في آيات كثيرة فقال: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) (الفرقان:1) , وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) (سـبأ:28) , وقال: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (لأعراف:158) , ومن هنا كانت رسالته أيضا ختام الرسالات فلا رسالة تعقبها أو تنسخها ولا نبي بعده (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) (الأحزاب:40) ، ومن هنا كذلك كانت معجزته الخالدة الباقية هذا القرآن الكريم (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ , لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42).
ولقد كان الناس يتساءلون من قبل هذا العصر كيف يكون فرد واحد من أمة واحدة رسولا للبشر جميعا فجاء هذا العصر الذي انمحت فيه المسافات ، وتجمعت فيه أطراف الأرض بهذه المواصلات ، وتشابكت فيه مصالح الأمم والدول والشعوب حتى لكأنها بلد واحد كبير ، لا ينفك جانب منه عن الجانب الآخر في قليل ولا في كثير , وانطلقت في أجواز الفضاء أنباء الشرق يعلمها ساعة حدوثها الغرب ، وأنباء الغرب يستمع إليها لحظة وقوعها الشرق , وتركزت آمال المصلحين اليوم في (العالم الواحد) ، و(النظام الواحد) ، و(الضمان الاجتماعي) و(السلام العالمي) , فكان ذلك آية كبرى ومعجزة أخرى لنبي الإسلام وشريعة الإسلام وصدق الله العظيم: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت:53).

وقد كان الإسلام عمليا كعادته فلم يقف عند حد تقرير الأصول النظرية لهذه الوحدة الإنسانية ولكنه رسم وسائل التطبيق ، وقرر الشعائر والشرائع التي يتأكد بها هذا المعنى في النفوس ، وثبت دعائمه في المجتمعات ، وهذا هو الفرق بين الرسالات الفلسفية والرسالات الإصلاحية أو بين الفيلسوف والمصلح .. فالفيلسوف يقرر النظريات , والمصلح يرسم قواعد التفيق ويشرف بنفسه على تمامه ، ومن هنا كان الإسلام نظريا وعمليا معا لأنه رسالة الإصلاح الشامل الخالد ، وعلى هذا الأساس قرر الشعائر والشرائع التي يتحقق بالعمل بها ما دعا إليه من إنسانية عالمية وأخوة حقيقية بين البشر على اختلاف أوطانهم وأجناسهم وألوانهم . ومن ذلك :
القبلة : فعلى المؤمنين أن يصرفوا وجوههم وقلوبهم وأفئدتهم كل يوم خمس مرات على الأقل إلى "الكعبة" بناها إبراهيم أبو الأنبياء عليه الصلاة والسلام ، وأن يشعر كل منهم بما يحيط بهذا الرمز الكريم من معاني الأخوة وبالوحدة بين الناس جميعا ، كما أن طواف الطائفين بهذه الكعبة المشرفة إن هو إلا توكيد لهذا الشعور عمليا كذلك , وينتهز بعض الذين لا يعلمون الحكمة البالغة والنظرة السامية في هذا التشريع الحكيم هذه الفرصة فيغمزون الإسلام بأنه لا زال متأثرا ببقية من وثنية العرب , وأن الكعبة والطواف من حولها ، والحجر الأسود واستلامه وما يحيط بذلك من معاني التقديس والتكريم إن هو إلا مظهر من مظاهر هذا التأثر , وهذا القول بعيد عن الصحة عار عن الصواب ، فالمسلم الذي يرف بالكعبة أو يستلم الحجر يعتقد اعتقادا جازما أنها جميعا أحجار لا تضر ولا تنفع ولكنه إنما يقدس فيها هذا المعنى الرمزي البديع: معنى الأخوة الإنسانية الشاملة ، والوحدة العالمية الجامعة . ويذكر في ذلك قول الله العلي الكبير (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ) (المائدة:97). والرمزية هي اللغة الوحيدة لتمثيل المعاني الدقيقة والمشاعر النبيلة التي لا يمكن أن تصورها الألفاظ أو تجلوها العبارات ، والذي يعظم علم وطنه يعلم أنه في ذاته قطعة نسيج لا قيمة لها ماديا ولكنه يشعر كذلك أنها ترمز إلى كل معاني المجد والسمو التي يعتز بها وطنه , وإنها تصور أدق المشاعر في وطنيته , فهو يحمي هذا العلم ويعظمه ويحترمه ويكرمه لهذه المعاني التي تجمعت جميعا وتمثلت فيه . والكعبة المشرفة علم الله المركوز في أرضه ليمثل به للناس أوضح معاني أخوتهم وليرمز به إلى أقدس مظاهر وحدتهم , وإنما كانت بناء ليكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا , ومن أجمل الجميل أن يقوم على رفع قواعد هذا البناء إبراهيم الخليل أبو الأنبياء (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:127).
وما الحجر الأسود إلا موضع الابتداء ونقطة التميز في هذا البناء ، وعنده تكون البيعة لرب الأرض والسماء على الإيمان والتصديق والعمل والوفاء , اللهم إيمانا بك لا بالحجر ، وتصديقا بكتابك لا بالخرافة ، ووفاء بعهدك وهو التوحيد الخالص لا الشرك ، واتباعا لسنة نبيك r محطم الأصنام.
فأين هذه المعاني الرمزية العلوية من تلك المظاهر الوثنية الخرافية؟ إن الكعبة المشرفة رمز قائم خالد ، ركز الإسلام من حوله أخلد وأقدس وأسمى معاني الإنسانية العالمية والأخوة بين بنى البشر جميعا (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة:125).

واللغة : وكما وحد الإسلام القبلة فقد وحد اللغة وأعلن أن العربية هي لسان القرآن (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف:3) ، وأن القرآن هو لسان المؤمنين وأن دعوة الإيمان دعوة موجهة إلى العالمين . ويقرر علماء الاجتماع أن اللغة هي أقوى الروابط بين الأمم والشعوب ، وأقرب وسائل التقريب والتوحيد بينها . وهى نسب من لا نسب له , وقد أدرك الإسلام هذه الحقيقة ففرض العربية فرضا على المؤمنين في صلواتهم وعباداتهم ومنح الجنسية العربية لكل من نطق بلغة العرب وجرى لسانه بها . واعتبر أن العربية هي اللسان . روى الحافظ ابن عساكر قال: (جاء قيس بن مطاطية إلى حلقة فيها سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي فقال: هؤلاء الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل "يعنى النبي r " فما بال هذا وهذا ؟ "مشيرا إلى غير العرب من الجالسين" فقام إليه معاذ بن جبل رضي الله عنه فأخذ بتلابيبه ثم أتى النبي r فأخبره بما قاله فقام النبي r مغضبا يجر رداءه حتى أتى المسجد ثم نودي الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس فخطبهم قائلا: "يا أيها الناس إن الرب واحد ، وإن الدين واحد ، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم وإنما هي اللسان ، فمن تكلم العربية فهو عربي").
وأي تشجيع أعظم من هذا على تعلم لغة العرب وتعميمها بين الناس لتكون هي "الاسبرانتو" العالمي الذي يربط البشرية بأقوى روابطها ، وهى اللسان . وقد يقال إن ذلك خيال لا يتحقق والجواب أنه خيال حققته قوة أصحابه الروحية والحسية من قبل وتحققه من بعد ، ولا خيال في الحقيقة إلا مع الضعف ، وحقائق اليوم أحلام الأمس وأحلام اليوم حقائق الغد . ولا تعاب الطريقة المثلى إذا هجرها الناس وهذه هي الطريقة للوحدة "وكل من سار على الدرب وصل".

الأذان: وتستمع إلى الأذان وهو الصوت العالي الذي تنطلق به حناجر المؤذنين في الصباح والمساء وعشيا وعند الظهيرة ومع الغروب: (الله اكبر الله اكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله , أشهد أن محمدا رسول الله . حي على الصلاة . حي على الفلاح . الله اكبر الله اكبر . لا إله إلا الله) يكرر المؤذن أعدادها المعروفة أو هو يقول حي على خير العمل كما في بعض الروايات . فهل ترى في هذا النداء دعوة إلى عصبية جنسية أو هتافا بنصرة طائفية؟ .. لا شيء إلا تمجيد الله والحث على الخير والفلاح والطاعة والصلاة والإرشاد إلى الأسوة الحسنة في محمد رسول الله.

والمساواة العامة هي شعار الإسلام في الحقوق والواجبات ومظاهر العبادات , فالجنس الإنساني مكرم كله مفضل على كثير من المخلوقات , (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء:70).
والناس جميعا مخاطبون بهذه الدعوة الإسلامية وكثيرا ما يستفتح الخطاب في القرآن الكريم بيا أيها الناس إشارة إلى عموم هذه الرسالة وتسويتها بين الناس في الحقوق والواجبات , والحقوق الروحية فضلا عن الحقوق المدنية والسياسية الفردية والاجتماعية والاقتصادية مقررة للجميع على السواء ، فما من شعب إلا بعث إليه رسول (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ) (فاطر:24) , ومظاهر العبادات وطرق أدائها مشتركة بين الجميع يؤدونها على قدم المساواة ، فهم في الصلاة كالبنيان المرصوص ، وهم في الحج قلب واحد يفدون من كل فج عميق ، وهم في الجهاد صف لا يتخلف عنه إلا أعرج أو مريض أو أعمى أو معذور ، وهم في كل معنى من هذه المعاني كأسنان المشط لا سيد ولا مسود (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات:10) ، وقل مثل ذلك في جميع الحقوق والواجبات والفرائض والعبادات التي جاء بها هذا الإسلام.

ولقد دعم الإسلام هذه المعاني النظرية والمراسيم العملية ببث أفضل المشاعر الإنسانية في النفوس من حب الخير للناس جميعا والترغيب في الإيثار ولو مع الحاجة (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر:9) ، والإحسان في كل شيء حتى في القتل (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة:195) , (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (الكهف:30) , (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ) (النحل:90).
وتقرير عواطف الرحمة حتى مع الحيوان فأبواب الجنة تفتح لرجل سقى كلبا ، وتبتلع الجحيم امرأة لأنها حبست هرة بغير طعام كما جاء ذلك وغيره من كثير من مثله في أحاديث النبي محمد r حتى استغرب أصحابه وقالوا: وإن لنا في البهائم لأجرا يا رسول الله؟ قال: (نعم في كل ذات كبد رطبة أجر) رواه البخاري ، ولا شك أن هذه المشاعر هي التي تفيض على صاحبها أفضل معاني الإنسانية وتوجهه إلى تقدير قيمه الأخوة العالمية.

وإن التاريخ ليحدثنا أن المجتمع الإسلامي سعد بتحقيق هذه المعاني في كل عصر من العصور التي ازدهرت فيها دعوة الإسلام وطبقها المؤمنون فيها تطبيقا صحيحا ، ففي عهد النبوة كان سلمان الفارسي إلى جانب صهيب الرومي إلى جوار بلال الحبشي ومعهم في نسق واحد أبو بكر القرشي تضمهم جميعا أخوة الإسلام (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً) (آل عمران:103) ، ولم تعرف التعصبات الجنسية إلا يوم ضعف شعور المسلمين بسلطان التوجيه الإسلامي الصحيح واجتاحتهم شياطين التقليد فانحرفوا عن هذا الصراط المستقيم.

ولقد بشر زعماء العالم إبان محنتهم في الحرب الماضية بهذه الإنسانية العالمية وهتفوا بالعالم الواحد السعيد الذي تسوده الطمأنينة والعدالة والحرية والوئام . فهل وصلوا إلى شيء من ذلك؟ .. أو حاولوا أن يصلوا إليه فيما قرروا من مؤتمرات وعقدوا من اجتماعات؟ وهل استطاعت هيئة الأم المتحدة أن تسوي في الحقوق بين أبناء الوطن الواحد في أفريقيا الجنوبية ، أو أن تحمل الأمريكان على ترك التفاضل بالألوان؟ لا شيء من هذا ، ولن يكون إلا إذا تطهرت النفوس بماء الوحي العذب الطهور ، وسقيت من معين الإيمان ، وأخلصت للإسلام دين الأخوة والوحدة والإنسانية والسلام
(إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ , وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)