السبت، 14 أبريل 2012

وهكذا تكون الفتن حينما تكلم الرسول الاعظم



الحمد لله الذي تفرد بعلم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا من خلقه ، إلا بالقدر الذي تقتضيه حكمته جلّ وعلا ، علم ما كان وما سيكون إلى قيام الساعة ، وصلّى الله وسلّم على عبده ورسوله وخيرته من خلقه الذي أخبرنا عن كثير مما أخبره به ربه من علامات الساعة ، وحدوث الفتن في آخر الزمان ، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثرهم واستن بسنتهم إلى يوم الدين .

وبعد : فإن هذه الأمة أمة مرحومة ، وهي خير الأمم ، وإليها بُعث أفضل الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ، وهذه الأمة هي أكثر أهل الجنة ، ووقوع الفتن فيها قَـدَر أخبر عنه الـمصطفى صلّى الله عليه وسلّم وأنه لا بد واقع { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} الأنفال : 42 .

ويتعين في مستهل هذا المقال أن أورد بعض الأحاديث الصحيحة ؛ لأنطلق منها إلى ساحة الحديث عن هذا الموضوع ، مبتدئًا بحديث حذيفة بن اليمـان رضي الله عنه ، وهو من أصح أحاديث الفتن .

أخرج الـبـخاريّ في كتاب الفتن من صحيحه حديث حذيفة رضي الله عنه برقم (7084) قـال :

كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّي اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْـخَـيْـرِ ، وَكُنتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ ، مَـخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّـةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْـخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْـخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ : (( نَعَمْ )) قُلْتُ : وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ : (( نَعَمْ ، وَفِيهِ دَخَنٌ )) قُلْتُ: وَمَا دَخَنُـهُ؟ قَالَ: (( قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي ، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنكِرُ )) قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: (( نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا )) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ صِفْهُمْ لَـنَا ، قَالَ: (( هُمْ مِن جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا )) قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَ كَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: (( تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ )) قُلْتُ: فَإِنْ لَــمْ يَكُنْ لَـهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ ؟ قَالَ: (( فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا ، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنتَ عَلَى ذَلِكَ)) .

وأخرجه مسلم كذلك في كتاب الإمارة برقم (1847) .

وأخرج مسلم في كتاب الإمارة من صحيحه حديث عمرو بن العاص رضي الله عنهما وهو قبل الحديث السابق برقم (1844) قال عبدالله بن عمرو : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّي اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَنَـزَلْنَا مَنزِلًا فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ (1) ، وَمِنَّا مَن يَنْتَضِلُ (2) ، وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ (3) ، إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّي اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الصَّلَاةَ جَامِعَةً (4) ، فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّي اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ: (( إِنَّهُ لَمْ يَكُن نَبِيٌّ قَـبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْـهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَــتُهَا فِي أَوَّلِـهَا وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا ، وَتَجِيءُ فِتْنَـةٌ فَـيُـرَقِّـقُ بَعْضُهَا بَعْـضـًا وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ : هَذِهِ مُهْلِكَتِي ، ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَـجِيءُ الْفِتْنَةُ ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَلْيَأْتِ إِلَي النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ )) .

وهناك حديث من أعظم المبشرات بمستقبل الإسلام يفصّل مراحل الحكم في التأريخ الإسلاميّ ، وهو حديث يتفق مع الحديثين السابقين في بعض المعاني الواردة فيهمـا ، وهذا الحديث أخرجه أحمد في مسنده برقم (18406) بإسناده عن حذيفة أيضـًا قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّي اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَن تَكُونَ ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضـًّا ، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيًا ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَن تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةٍ ، ثُمَّ سَكَتَ ))

ومن طريق أحمد : أخرجه العراقيّ في (( محجة القُرَب إلى محبة العرب )) ص (175-176) وقال : هذا حديث صحيح أخرجه أحمد في مسنده .

وأورده الهيثميّ في المجمع (5/188-189) وقال : رجاله ثقات .

ونقل الألبانيّ تصحيحه في (( سلسلة الأحاديث الصحيحة )) (1/34-35) وتعقبه بأن الحديث حسن وحسنه كذلك شعيب الأرنؤوط في تخريجه لأحاديث (( المسند )) (30/356) .

وتحسينهمـا له من أجل حبيب بن سالم الأنصاريّ ، مولى النعمان بن بشير رضي الله عنهمـا ، وكاتبه ، قال عنه ابن حجر في التقريب : ص (189) : لا بأس به .

وفي خضم هذه الأحداث المتلاحقة ، والخطوب المدلهمة ، والفتن العاصفة ، يحسن بنا أن نستلهم من هذه الأحاديث وغيرها من كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم بعض البصائر التي نهتدي بها في دياجير هذه الفتن :

1) أن حدوث الفتن في تأريخ هذه الأمة قَـدَر إلـهـيّ - كما سبقت الإشارة إليه - لا بد من وقوعه لِحكَم ندرك شيئًا منها ، ويغيب عنا أكثرها ، والواجب علينا التسليم المطلق لله عز وجل في كل أمر من الأمور ، وأن هذا داخل في عموم الابتلاء الذي كتبه المولى جلّ وعلا على هذه الأمة بصريح قوله تعالى :{أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} سورة العنكبوت : 2 . 
2) أن الله تعالى عافى هذه الأمة من هذه الفتن في أولها ، كما جاء في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهمـا ، وستعود إلى عافيتها بعد ظهور المهديّ ، ونزول عيسى عليهمـا السلام ، في آخر الزمان ، كمـا تدل عليه النصوص الثابته ، وفي حديث حذيفة رضي الله عنه عن مراحل الحكم في التاريخ الإسلاميّ إشارة إلى تعافي الأمة بقيام الخلافة الراشدة الثانية ، حيث قال : (( ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَـةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةٍ )) .وقد كثرت النصوص الثابتة الدالة على الحياة الكريمة ، ورغد العيش ، والبركة في الثمار ، في هذه الحِقبة المباركة ؛ حتى إن الفئام من الناس يستظلون تحت قِحْف الرمانة (5) . 
3) أن الملك العاضّ ، يتمثّل - والله أعلم - في عهود الخلافة المتلاحقة بدءًا بالخلافة الأموية ، ومرورًا بالـخلافة العباسية ، وانتهاء بالـخلافة العثمـانـيـة ، فإنها لـم تخل من عسف وظلم ، وإن كان الـحكم فيها إسلامـيًّا في مجمله .ويُستثنى من هذه العهود عهد الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه ، في فترة الحكم الأمويّ والخليفة المتوكّل رحمه الله تعالى في فترة الحكم العباسيّ ، ونور الدين زنكيّ ، وصلاح الدين الأيوبيّ رحـمهمـا الله تعالى بعد ذلك .فإن هؤلاء الخلفاء والملوك هم أعدل الولاة في تاريخ الإسلام بعد عمر بن عبدالعزيز ، وسيرتهم مع رعاياهم كانت سيرة مَرْضِيَّـة كُتِبت فيها التصانيف .وقد فسر الشراح بعض جمل حديث معاذ في الفتن تفسيرًا متنوعًا .فقال عياض : (( المراد بالشر الأول الفتن التي وقعت بعد عثمان ، والمراد بالخير الذي بعده ما وقع في خلافة عمر بن العزيز ، والمراد بالذين تعرف منهم وتنكر الأمراء بعده ، فكان فيهم من يتمسك بالسنة والعدل وفيهم من يدعوا إلى البدعة ويعمل بالجور )) (6) .

وقال ابن حجر عقب إيراده كلام عياض : (( والذي يظهر أن المراد بالشر الأول ما أشار إليه من الفتن الأولى ، وبالخير ما وقع من الاجتماع مع عليّ ومعاوية ، وبالدَّخَن ما كان في زمنهمـا من بعض الأمراء كزياد بالعراق ، وخلاف من خالف عليه من الخوارج ، وبالدعاة على أبواب جهنم من قام في طلب الملك من الخوارج وغيرهم ، وإلى ذلك الإشارة بقوله : (( الْزَمْ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ )) يعني ولو جار - إلى أن قال - وكان مثل ذلك كثيرًا في إمارة الحجاج ، ونحوه )) (7) .

وأما الملك الجبريّ فأصدق الأمثلة عليه ما شهدناه ونشهده في عصرنا هذا من انقلابات عسكرية دموية يتسلم أحد العسكر الحكم بعد ذلك بقوة السلاح ، ويسوم شعبه سوء العذاب ، ويكبت حرّياتهم ، ويقضي على مظاهر شرع الله تعالى ، وينهب الثروات ، ويجعل البلاد رهن تصرف أهله وعشيرته ، ويسلطهم على أفراد الشعب وممتلكاتهم كالكلاب المسعورة ، ويمكِّن لأعداء الله وشرعه يعيثون في الأرض فسادًا .

وأبرز الأمثلة على هذا الواقع المرّ حكم القذافيّ في ليبيا ، وحكم ابن عليّ في تونس .

ومع هذا نجد من بعض المغفلين ، وبعض علماء السوء ، وبعض المغرضين المنتفعين من يفتي الجماهير التي خرجت تصرخ في وجوه الطغاة بعد أن قتلوا أولادهم وإخوانهم ، وزَجُّوا بهم في غياهب السجون ، وحاربوهم في أرزاقهم ، وانتهكوا أعراضهم ، نجد من هؤلاء جميهم من يأمرهم بطاعة هؤلاء ؛ لأنهم في نظرهم أولياء أمورهم ، ويجب والصبر على عسفهم وظلمهم ، دون أن يُــقَـيِّـدوا هذه الطاعة بالمعروف ، وإنمـا يطالبونهم بالطاعة المطلقة ، وهذا والله من أعجب العجب ، وياليتهم في المقابل يطالبون هؤلاء الطواغيت بتلبية بعض مطالب الجمـاهير العادلة .

ياللعجب !! هل يعد القذافيّ وليّ أمر المسلمين في بلاده ، وهو الذي جعل كتابه الأخضر مكان القرآن الكريم ، وقد أفتى سماحة الإمام ابن باز رحمه الله تعالى قبل ثلاثين سنة ، ومعه المجامع الفقهية بكفره .

كيف يكون هذا المجرم الأثيم وجاره المشابه له ابن عليّ من أولياء أمور المسلمين ، وهما اللذان استأصلا الشريعة الإسلامية من هذين البلدين ، وأعلنا فيهما الكفر البواح ، واستُـبِـيـحت فيهمـا الأعراض ، وقُتِلَ فيهما عشرات الألوف لا لشيء إلا أنهم أنكروا عليهم العسف والظلم ، ومحاربة شرع الله تعالى .

 

وقد يفهم بعض من لا علم له من قول النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم : (( ثُمَّ تَكُونُ مُلْكـًا جَبْرِيًّا )) أن الملك محصور في النظام الملكيّ فقط ، وهذا غير صحيح ، فكل من تولى ولاية بلد سواء كان رئيس جمهورية أو ملكًا أو أميرًا أو سلطانًا ، فإن ولايته يُطْلق عليها اسم الملك .

والأنظمة الملكية في مجملها أرحم بشعوبها من الرؤساء الانقلابين ، فملك ليبيا محمد بن إدريس السنوسيّ كان حافظـًا لكتاب الله تعالى ، حريصـًا على نشر تعليمه عن طريق ألوف الزوايا في المدن الليبية وقراها ، وكان محبوبـًا من شعبه ، وقد اختاره هذا الشعب وبايعه ، فانقلب عليه القذافيّ وحوّل ليبيا إلى جحيم لا يطاق وعاش الملك السنوسيّ في المنفى ، وحين مات دفن في البقيع تنفيذًا لوصيته بذلك ، رحمه الله تعالى .

وقارن بين النظام الملكيّ في العراق وبين النظام الجمهوريّ الذي جرّ على البلاد الويلات والمصائب والكوارث إلى وقـتـنا هذا . 
وليس النظام الملكيّ مبرءًا من العسف والظلم ، ولكن الأمر نسبيّ ، ومعظم الأنظمة الملكية داخلة في الملك الجبريّ .وإني لأسأل الله تعالى أن نكون في آخر فترة الحكم الجبريّ الذي اصطَـلَت به أكثر بلاد العالم الإسلاميّ { وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (21) سورة يوسف .

إن هذا الحكم الجبريّ ضرب بجرانه على بلاد المسلمين بعد سقوط الخلافة العثمانية حينما ضعفت وت مر عليها الغرب بمختلف مؤسساته ، وشرعوا في تقسيم العالم الإسلام إلى دويلات ليسهل التحكم فيها والسيطرة عليها ، والتحريش بينها .ولقد كان أمير الشعراء أحمد شوقيّ رحمه الله تعالى ملهمـًـا حين قال في آخر مرثيته البديعة لهذه الخلافة (8) :

فَلَتَسـمَـعُـنَّ بِـكُــلِّ أرضٍ داعــيــاًيَدعـو إلــى الـكـذَّابِ أو لسَّـجـاح
ولَتَـشـهَـدُنَّ بِــكُــلِّ أرضٍ فـتـنــةًفيهـا يُـبـاعُ الـدِّيـنُ بـيـع سـمـاحِ
يُفتى على ذَهَبِ المُعِزِّ وسيفِـهِوهَوى النُّفوسِ وحقدها الملحاح

لقد لـخص هذا الشاعر الفحل ما جرى بعد سقوط الحكم العثمانيّ من إقصاء للدين ، ودعوة لتغريب وتمزيق للشعوب إلى دويلات تدين للغرب ، أُذكيت فيها الخلافات والنعرات ، وأصبح لكل حاكم هَتَّافة للتهريج ، وَجَوْقَــة من علماء السوء ، يفتون على مراده ترغيبًا أو ترهيبـًا ، وأصبح هوى النفوس وأحقادها وكيدها هو المهيمن على كل موقف إلا ما رحم الله تعالى . 

4) على الحكام في جميع بلاد المسلمين - وإن كان لا يصل هذا الخطاب إليهم - أن يتصالحوا مع شعبوهم ويرفعوا عنهم الظلم والقهر والاستبداد ، وأهم من ذلك يجب أن يحكموهم بالعدل ، ويشاوروا عقلاءهم يسمعوا منهم .

وليعلم هؤلاء الحكام أن زمن حكم الفرد الذي يقول لشعبه بلسان الحال أو المقال : { مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى } غافر : 29 ، قد ولى أو كاد ، وكأن أمير الشعراء قد قصد هذا الحقبة بقوله مخاطبًا فرعون مصر الأكبر (( توت خنع آمون )) (9) : 

زمانُ الفردِ يا فرعونُ ولّىودالـتْ دولــةُ المتجبريـنـا
وأصبحت الرعاةُ بكل أرضٍعلى حكمِ الرعيةِ نازلينـا

وليعلم الحكام أن أسلحة جديدة يستعملها خصومهم في المعركة يصعب عليهم استيعابها والسيطرة عليها بل يستحيل ذلك في كثير من الأحيان .

إنها أسلحة الإعلام الجديد ، وفي طليعتها الفضائيات التي كشفت وتكشف كل مستور ، وتعري كل إجرام ، وتفضح ما يحوكه المتآمرون في دهاليز الغدر ، في أسلوب مثير يدعو إلى الدهشة والإعجاب .

وساعد الفضائيات على هذا الزخم الهائل أسلحة الإعلام الأخرى المرتبطة بشبكة المعلومات ((الأنترنت)) مثل الفيسبوك ، واليتيوب ، والتويتر وغيرها .

ولقد أصبح ما تمارسه الأنظمة القمعية من تعتيم على ارتكاب الإبادة والفساد أمرًا مكشوفــًا للقاصي والداني ، وأصبحت الفضائح تلاحق هؤلاء الحكام وزبانيتهم ، ويكاد يشاهدها الناس في كل مكان .

ولقد ألـهـبت هذه الأسلحة غضب الشعوب المقهورة المظلومة ، وأسهمت في توحّد صفوفهم ، وأوصلت كلمـات أهل الرأي والحكمة والعلم إليهم .

لذا يجب على العلماء ألّا يقفوا موقف المتحيِّـز إلى الحكام ، وأن يناصحوهم ، فهم السدّ المنيع الذي يمنع الحاكم من تسلطه على رعيته ، ويظمنون للرعية وصول حقهم إليهم بمشيئة الله تعالى إذا صدقوا واتقوا ربهم .

إن معظم علمـاء اليوم بين متحيِّـز إلى الأنظمة ، وبين مغلوب على أمره ، يلوذ بالصمت ، ولا يملك إلا أضعف الإيمـان ، وما أقلّ الذين ينطقون بالحق ، ويقولون لـهـؤلاء الحكام : اتقوا الله تعالى . 

5) على الشعوب التي تنتفض على الظلم والظالـمين أن تنتبه للمؤامرات العلقميّـة ؛ فابن العلقميّ الرافضيّ الذي اسهم في إسقاط الخلافة العباسية ، يتكرر في غالب الأزمنة والأمكنة :

وتعدّد ابنُ العلقمي فها هناقامتْ علاقمة هناك علاقمه

ومن أبرز العلاقمة : المندسون المتلصِّصون الذين يسرقون الثورات ليتمكنوا من سرقة الثروات ، وإشاعة الفواحش والشهوات ، وتمكين أعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم ؛ ليحتلوا بلاد المسلمين وينهبوا خيراتها ويتحكموا في مفاصلها .

وصمام الأمان من كل ذلك يتحقق في إحياء شعيرة الجهاد في الأمة ، وهو الأمر الذي أجمعت ملل الكفر ولا سيما حكومات الغرب على محاربته ، وسموه إرهابـًا ، وأطلقوا أبواق إعلامهم تردد هذه المفتريات ، وأقنعوا أذنابهم من حكام العالم الإسلاميّ بهذا المكر الكُبـَّار ، واستغل هؤلاء الأذناب التصرف الأرعن الصادر عن بعض الغلاة الذين يرتكبون حوادث التفجير والتدمير في بلاد المسلمين ، فاندفعت آلة إعلامهم تُردِّد هذا المصطلح حتى كاد الصُّمّ أن يستغيثوا من هذا التكرار السَّمِـج .

وفي المقابل نجد كثيرًا من المعنيـّيـن بإصلاح الأمة والدفاع عن حياضها يتحرّجون من إطلاق مصطلح (( الجهاد )) ويستبدلونه بلفظ (( المقاومة )) حتى لا يُـتَّـهَموا بالإرهاب ، وهذا ولا ريب انهزام نفسيّ!

إن مصطلح الجهاد أمر أَبْدَأَ الله فيه وأعاد في كتابه الكريم ، وفي سنة نبيّه صلَّى الله عليه وسلَّم مئات الأحاديث في فضله ، وأنه ذُرْوة سنام الإسلام ، وما تركه قوم إلا ذلّوا ، ولا حماية لبيضة الإسلام وديار المسلمين إلا به ، كل ذلك وردت فيه الأحاديث الصحيحة الصريحة في الصحيحين وغيرهما ، بل أُلِّفت في الجهاد وأحكامه الكتب الكبيرة والأسفار المتعددة ، ومثل هذا المقال القصير يضيق عن إيراد شيء منها .

إن ما يجري في ليبيا الآن ليس ثورة شعبية ، إنما هو جهاد في سبيل الله بحقّ ، بين شعب مظلوم ونظام عُـبيديّ باطنيّ كافر ، وإننا لنفرح كثيرًا حين نرى هؤلاء المجاهدين يسجدون في الطرقات شكرًا لله على نصره لهم ، ولا تسمع مع زخَّات الرصاص وهدير المدافع والرشاشات إلا صيحات التكبير ، ويحملون المصاحف ويصلون في الميادين المكشوفة.

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذىحتـى يـراق عـلـى جوانـبـه الــدم
***
جــدر الـمـذلـة لـــن تـــدكَّـبـغـيـر زخــــات الــرصــاص
وبـغـيـر نـضــخ الـــدم لــــنيُمحَى الهوان عن النواصي

إن هؤلاء المجاهدين هم أحفاد المجاهد البطل (( عمر المختار )) الذي مكث أكثر من عشرين سنة يجاهد الغزاة الطليان ، ولَطَالما كبَّدهم الهزائم الـمتـتالية ، ولم ينالوا منه إلا بالطرق الغادرة ، ونحسب أنه لقي ربه شهيدًا ، وهو يقول ثابتًا كالطود بكل شموخ وعزة وإباء : (( نحن لا نستسلم ، نـنـتصر أو نموت )) .

إن هؤلاء الأحفاد يستلهمون من سيرته جهادهم ضد هذا الأهوج الغاشم الظالم ، المنتهك لكل الحرمات والذي لم يبق له إلا أبناؤه والمـأجورون من فلول أنصاره والمرتزقه من أصحاب الذمه الـخَرِبة ، الذين استقطبهم لقتل الأبرياء من الشيوخ والنساء والأطفال .

وهذا ليس غريبـًا على رجل أمه يهوديه (10) - كمـا ذكرت ذلك صحيفة النهار البيروتية في أول أسبوع من ثورة الفاتح كمـا سماها - وهو يدعو إلى إعادة الحكم العبيديّ الباطنيّ .

وكأني بأمير الشعراء الـملهم يخاطب هـؤلاء المجاهدين الأشاوش في مرثيته لأستاذهم الـمجاهد العملاق عمر المختار رحمه الله تعالى بقوله (11) :

يا أَيُّهَا الشعـبُ القريـبُ, أَسامـعٌفأَصـوغَ فـي عُمَـرَ الشَّهِيـدِ رِثــاءَ
أَم أَلْجَمَتْ فاكَ الخُطوبُ وحَرَّمـتأُذنَـيْـكَ حـيـنَ تُخـاطِـبُ الإِصْـغــاءَ
ذهـب الزعيـمُ وأَنـتَ بـاقٍ خـالـدٌفانقُـد رِجـالَـك, واخْـتَـرِ الزُّعَـمـاءَ
وأَرِحْ شيوخَكَ من تكاليفِ الوَغَىواحْـمِـلْ عـلـى فِتْيـانِـكَ الأَعْـبـاءَ

إن إخواننا الفتية المجاهدين في ليبيا الآن ينقدون رجالهم ، ويختارون زعماءهم لحسم المعركة مع هذا السفاح المهلوس وجنده ، فيا أيـها المجاهدون الصامدون في ليبيا : اثبتوا واصمدوا ، والجأوا إلى الله متضرعين أن ينصركم ، وأكثروا من الدعاء والاستغفار ، ومن كان قادرًا على الصدقة فليتصدق ، واصدقوا مع الله ينصركم ، ولن تنتصر شرذمة لا تعرف الله ولا تخشاه على شعب يؤمن بالله وفيه أكثر من مليون حافظ لكتاب الله تعالى ، وتذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته في معركة الخندق لم ينتصروا حتى بلغت القلوب الحناجر ، فكيف بنا نحن فـ {اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} آل عمران :200 

* ماذا يجب على إخواننا في تونس ، ومصر ، وليـبـيـا أن يفعلوه ؟

إن على إخواننا في تونس ، ومصر ، وليبيا أن يتنبهوا لأعداء الإسلام المتربصين بهذه الدول الثلاث وغيرها لأن هؤلاء الأعداء يحاولون النفوذ إلى هذه البلاد عن طريق العلاقمة المتآمرين في الداخل .

وقد حذر الداعية الإسلاميّ المعروف ، والمفكر الشهير الشيخ : غازي التوبة (12) من ثلاث قوى تحاول اختراق هذه الدول والمكر بشعوبها ، وهذه القوى هي : الولايات المتحدة ، وإسرائيل ، وإيران .

أما أميركا فميزانها هو المصالح ، وفي سبيل تحقيق مصالحها تدغدغ الشعوب بالنظام الديمقراطيّ والديمقراطية التي تريدها أميركا للشعوب الإسلامية هي الديمقراطية المرتبطة بالفرد الذي تختاره ليحقق لها مصالحها مثل كرازاي في أفغانستان ، وتشغل العالم الإسلاميّ بإشعال الفتن عن طريق ما تسميه (( الفوضى الخلّاقة )) وبشرت العالم الإسلاميّ بــ (( شرق أوسط كبير )) ثم بــ (( شرق أوسط جديد )) ورأينا أثر هذا التبشير في العراق وأفغانستان وغيرهما .

أما إسرائيل : فهي أكثر اهتمـامًا من أميركا بالتخطيط لتفتيت دول المنطقة ، وتغلغلها في مفاصلها ، ومنذ أن حطت في الأرض المباركة فلسطين ولوثـتها ، وهي ترسم الخطط لتمزيق دول منطقتنا إلى دويلات يسهل التحكم فيها ، وإحداث الصراعات بينهـا .

وقد نصت وثائقها التي ذكرها الأستاذ غازي التوبة على إيجاد دولة للعلويـين في سوريا ، وأخرى للدروز في جبل العرب ، ودولة للمسيحيـين في لبنان ، وإيجاد دولتين للمسلمين والأقباط في مصر ، وتقسيم السودان إلى دولتين ، وقد نجحت في فصل الجنوب وإقامة دولة عليه للنصارى ، وتفكر في تجزئة دول المغرب العربيّ والخليج وغيرها .

وأما إيران : فإن مطامع الروافض الصفويين في العالم الإسلاميّ لا تقف عند حد ، فلهم خطة خمسينـيّــة يهدفون من وراء تنفيذها إلى الاستيلاء على العالم العربيّ ابتداء بإقامة ما يسمونه دولة الهلال الشيعيّ ، التي تبدأ من اليمن ، مرورًا بدول الخليج العربيّ ، والعراق ، والأردن ، ولبنان إلى سوريا ، ولهم خطط ترمي إلى تحريك بؤر التجمعات الشيعية في جميع أنحاء العالم ، وإدخال التشيع إلى البلدان التي لا وجود له فيها كمصر وبعض دول المغرب العربيّ ، وهو ما يطلقون عليه (( تصدير الثورة )) .

ويجب على إخواننا أهل السنة ألا ينزلقوا إلى الدعوات لمظاهرات يدعو إليها الرافضة في بلادنا ، تحت شعارات رافضية تنال من مقام الصحابة رضي الله عنهم ، مثل الدعوة إلى (( يوم حنين )) زعمـًا منهم أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فَرَّا في غزوة حنين ، ولم يبق معه إلا عليّ رضي الله عنه ، وهذا من قبيح جرأتهم على الكذب والوقاحة ، والرد على مثل هذا لا تحتمله مساحة هذا المقال .

وليتنبه إخواننا في هذه الدول التي أسقطت الطواغيت لهذه المشاريع الخبيثة التي يحوكها اليهود والنصارى وألّا يسمحوا لتدخلاتهم فدول الغرب تغازل الثوار ، وفرنسا تبادر للاعتراف ، وأميركا وأوربا تطالب القذافيّ بالرحيل ، ونسمع كل يوم جديداً ، والتآمر في الداخل والخارج تدور رحاه ، والله أعلم بخفايا الأمور وبواطنها .

* العبرة من مصارع الظالمين .

كل من بارز الله تعالى بالحرب وأمعن في ظلم عباده ؛ فإن نهايته مخزية ، وأخذه له أليم شديد مهمـا طالت مدته ، واغتر بإمهال الله له .

ولقد حدثنا الله تعالى عن مصارع الظالمين بدءًا بفرعون وقارون وهامان وغيرهم ، وانتهاء بالفراعنة المستبدين في عصرنا ، والذين حكموا الشعوب المسلمة بالحديد والنار .

أين جمال عبدالناصر ، وأين شاه إيران الذي كان يسمي نفسه (( شاهٍ شاه )) أي ملك الملوك ، وأين صدام حسين وأين ابن عليّ وحسني وغيرهم ؟

لقد كان هؤلاء يأمرون فلا يُردّ لهم أمر ، ولا يعترض أحد على أي : فعل يفعلونه ، وكل ما يصدر عنهم محفوف بالقداسة والعصمة ، وتُسخّر آلة الإعلام لتمجيدهم صباح مساء ، وتملأ تماثيل صورهم كل شارع ويتزاحم الزائرون بمختلف طبقاتهم على أبواب قصورهم .

وبين عشية وضحاها ، أصبح هؤلاء المتجبرون الـمتألِّـهون مطاردين ، يُـشتمون بكل لسان ، ويمتنع أسيادهم في الغرب من استقبالـهم ، وتصدر الأوامر بتجميد أرصدتهم ، وتُصادر ممتلكاتهم الهائلة ، ويُـزجّ بالـمتنفّذين من أقاربهم ووزرائهم في المعتقلات ، أو تفرض عليهم الإقامة الجبرية ويمنعون من السفر .

ومن عجائب قدر الله أن تجد أسماءهم مخالفة لأفعالهم مخالفة شنيعة ، فمن زين العابدين إلى حسني مبارك فلا زين ، ولا حسن ، ولا بركة ، وإنما النقيض تمامًا ، وانظر إلى أسماء زبانيتهم كأحمد نظيف ، وحبيب العادلي فأين النظافة ، وأين العدل عندهما وعند أمثالهمـا ؟

كل هؤلاء وزبانيتهم ذهبوا كما ذهب من قبلهم جمال عبدالناصر ، والسادات ، وشاه إيران الذي كان يلقّب بـ (( الطاووس )) لكبريائه ، وصدام حسين ، وسيلحق بهؤلاء هولاكو ليبيا ونيرونـها الذي بلغ جنون العظمة عنده مبلغًا لم يحصل لبشر فيما نعلم إلا لفرعون.

ويــل وويـــل لأعـــداء الـبــلاد إذاضجّ السكون وهبّت غضبة الثار !
حقد الشعـوب براكيـن مسممـةوقـودهــا كـــل خــــوان وغــــدار
***
صمت الشعوب على الطغاة وبغيهمصمت الصواعق فـي بطـون سحـاب

إن في كتاب الله تعالى مئات الآيات ، ذكر فيها سبحانه عقوبة الظالمين وعاقبتهم البئيسة في الدنيا ، وما أعد لهم من عذاب أليم مقيم في الآخرة .

والله عز وجل قطع دابر أقوام في الدنيا لا يعلمهم إلا الله ، طغوا وبغوا وظلموا وتجبروا {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}الآيتان (44-45) سورة الأنعام .

وفي آيات كثيرة أخبرنا الله عما أعده لهم في الآخرة من عذاب عظيم ، كما في قوله تعالى : {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا} الكهف : 29 .

وقال تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} مريم : (71-72) .

ونبينا صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن ليل الظالمين لا بد أن ينتهي مهما طال ، وأن الله يمهل ولا يهمل : (( إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ )) (13) ثم قرأ : {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} هود : 102 .

ورحم الله الإمام الشافعيّ ورضي عنه إذ يقول (14) : 

إذا ظالم يستحسن الظلـم مذهبـاولــجّ عـتـواً فــي قبـيـح اكتـسـابـهِ
فكِلْـهُ إلـى صــرف الليـالـي فإنـهـاسترعى له ما لم يكن في حسابهِ
فـكـم قــد رأيـنــا ظـالـمـاً مـتـمـرداًيـرى النجـم تيهـاً تحـت ظـل ركابـهِ
فعـمـا قلـيـلٍ وهــو فـــي غـفـلاتـهأنـاخـت صـــروف الـحـادثـات بـبـابـهِ
فأصـبـح لا مــال ولا جــاه يـرتـجـيولا حسـنـات تلتـقـي فــي كـتـابـهِ
وجـوزي بالأمـر الــذي كــان فـاعـلاًوصََـــبَّ عـلـيـه الله ســـوط عـذابــهِ

* و بـعـــد : فإن تساقط الحكام الظالمين كأوراق الخريف تحت مطارق الثائرين على ظلمهم واستبدادهم وقهرهم وتحول بعض هذه الثورات إلى جهاد في سبيل الله تعالى ؛ كمـا نرى في ليـبـيا ، يؤذن بإذن الله تعالى بـفـجـر جديد إنه فجر التجديد لهذا الدين الذي وعد به من لا ينطق عن الـهوى ، صلوات الله وسلامه عليه حيث قال : (( إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا )) .

والحديث أخرجه أبو داود في سننه برقم (4291) ومن طريقه : أبو عمرو الدانيّ في (( السنن الوراردة في الفتن وغوائلها )) برقم (364) .

وأخرجه الحاكم في المستدرك (4/522) وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

وهو حديث صحيح ، صححه جمع من الحفاظ ، بل نقل السيوطيّ اتفاق الحفاظ على تصحيحه ، وممن صححه ابن حجر والسخاويّ ، وصححه من المعاصرين الألبانيّ في (( سلسلة الأحاديث الصحيحة )) برقم (599) وشعيب الأرنؤوط في تحقيقه لسنن أبي داود بالرقم السابق ، وعبدالقادر الأرنؤوط في تحقيقة لـ (( جامع الأصول )) (11/320) وانظر تعليق رضاء الله المباركفوريّ على تحقيقه لـ (( السن الواردة )) (3/743-744).

والتجديد على القول الصحيح ليس محصورًا في شخص بعينه ، وإنمـا يقوم به جماعة ، يُـجـدّد كل واحد منهم في فن أو فنون من العلوم الشرعية ، وغيرها ، كما ذكر ذلك الإمام ابن الأثير في (( جامع الأصول )) (11/320) وما بعدها ، والسهانفوريّ في (( بذل المجهود في حَلّ سنن أبي داود )) (12/336-337) .

ومن التجديد الشامل ظهور من تجتمع عليه الكلمة من الولاة إذا أذن الله بقيام الخلافة الراشدة كما دل على ذلك حديث حذيفة الذي تقدم في بداية المقال .
      وان الخلافة الاسلامية ليست الان منا ببعيد فقد اجمع شارحوا الكتاب المقدس من علماء الديانتين اليهودية والنصرانية على ان نهاية القطب الاوحد (امريكا ) سوف تكون فى العام -2025- حسب نصوص التوراة والانجيل الصحيحة والصريحة والتى خبئت فى اعماق ما اسموه بالتلمود  وان الاسلام سوف يترئس العالم كما كان من قبل وهذا كلام اعداء الاسلام.
 أسأل الله تعالى أن ينصر دينه ، وأن يستعملنا في ذلك ، وأن يصلح أحوال الأمة رعاة ورعيّة ، وأن يجنب بلادنا وبلاد المسلمين الشرور والفتن.
                                                                       سامى العقيبى 

الجمعة، 13 أبريل 2012

ولذكر الله أكبر

اعلم أيها العبد أن حياة قلبك أولى بالاهتمام من حياة جسدك، ذلك لأن حياة القلب تؤهّلك لأن تعيش حياة طيبة طاهرة في الدنيا وسعادة أبديّة في الآخرة بينما حياة الجسد حياة مؤقتة، سُرعان ما تزول وتنقضي، ولا سبيل لعلاج حياة القلب وزيادة الإيمان فيه إلا بالطاعات، فهي كلّها لازمة لحياة القلب كما يلزم الطعام والشراب لحياة الجسد، ومن أعظم ما يحتاجه قلب العبد من الأغذية النافعة ذكر الله عزّ وجل، فالذكر هو المنزلة الكبرى التّي يتزوّد منها العارفون وفيها يُتاجرون وإليها دائماً يتردّدون، وهو قوت قلوبهم الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبوراً، وهو عمارة ديارهم التي إذا تعطّلت عنه صارت بوراً، وهو سِلاحهم الذي يُقاتلون به قُطّاع الطريق، وهو دواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب، وهو السبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علاّم الغيوب.


فبذكر الله تُدفع الآفات وتُكشف الكُرُبات وتهون المصيبات. كان السلف إذا أظَلّهم البلاء فإلى ذكر الله ملجؤهم، وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مَفزعُهم، فهو رياض جنّتهم التي فيها يتقلّبون، ورؤوس أموال سعادتهم التي بها يتَّجِرون، الذكر يَجعل القلب الحزين ضاحكاً مسروراً، ويوصل الذاكر إلى المذكور – أي إلى ربّه –، والذكر عبودية القلب واللسان، وهي عبادة غير مؤقتة، بل يُؤمر العبد بذكر مَعبوده ومحبوبه في كل حال قياماً وقعوداً وعلى جنبه.

ذكر الله عزّ وجل هو جلاء القلوب وصفاؤها ودواؤها إذا مرِضت، وكلّما ازداد الذاكر في ذكره ازداد محبة إلى لقاء ربه. وإذا واطئ في ذكره قلبه للسانه نسي في جنب ذكره كل شيء، وحفظ الله عليه كل شيء، وكان له عِوَضاً من كل شيء. به يزول الوقر عن الأسماع، والبَكم عن الألسنة، وبه تنقشع الظلمة عن الأبصار، فالذكر هو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده ما لم يُغلقه العبد بغفلته. قال الحسن البصري رحمه الله: "تَفقّدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة وفي الذِّكر وقراءة القرآن، فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مُغلق".
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى للذكر فوائد كثيرة أقتَصر على بعضٍ منها: فمن فوائده:
أنه يطرد الشيطان ويَقمعه ويَكسره، ويُرضي الرحمن عزّ وجل، ويُزيل الغمّ والحُزن، ويجلب للقلب الفرَح والسرور والبَسْط.
ومن فوائده أنّه يُقوّي القلب والبدن ويُنوِّر الوجه والقلب ويَجلِب الرزق.
ومنها أنه يكسو الذاكر الحلاوة والمهابة ويورثه محبّة الله.
ومها أنه يُكسِب العبد مراقبة ربّه فيدخل في باب الإحسان فيُصبح يعبد الله كأنّه يراه.
ومن فوائده أنّه سبب ذكر الله عزّ وجل لعبده الذاكر كما قال تعالى: فاذكروني أذكُرْكم . وفي الحديث القُدسي الذي أخرجه البخاري ومسلم :(( فإن ذكرني في نفسه ذكَرتُه في نفسي، وإن ذكرني في مَلأ ذكرته في ملأ خير منهم)) .
ومنها أيضاً أنه يورث حياة للقلب كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "الذكر للقلب كالماء للسمك، فكيف يكون حال السّمك إذا فارق الماء".
ومنها أيضاً أنّه يورث جلاء القلب من صَدَئه، إذ كل شيء له صدأ، وصدأ القلب: الغفلة والهوى، وجلاؤه وصفاؤه: الذكر والتوبة والاستغفار.
ومنها أن الذكر يَحُطّ الخطايا ويُذهِبُها، فإنّه من أعظم الحسَنات والله تعالى يقول: إن الحسنات يُذْهِبن السيئات . وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من قال في يوم وليلة سبحان الله وبحمده مائة مرّة حُطّت عنه خطاياه، وإن كانت مثل زبَد البحر)).
ولا شكّ أن حضور حِلَق الذكر يؤدي إلى زيادة الإيمان، وذلك لعدة أسباب منها: ما يحصل فيها من ذكر الله، ونزول الرحمة والسّكينة وحَفّ الملائكة للذاكرين كما جاء في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: ((وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويَتَدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشِيَتهم الرحمة وحَفّتهم الملائكة وذَكَرهم الله فيمن عنده)). ومما يدلّكم على أن مجالس الذكر تزيد الإيمان ما أخرجه مُسلم في صحيحه عن حنظلة الأسيدي قال: لقِيَني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله يُذكِّرُنا بالنار والجنّة، حتى كأننا نراها، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عُدنا إلى أزواجنا وأولادنا ومعاشنا فنسينا كثيراً. قال أبو بكر: فو الله إنا لنلقى مثل هذا. فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخَلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: نافَق حنظلة يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما ذاك؟)) قلت: يا رسول الله نكون عندك تُذكِّرُنا بالنار والجنة حتى كأنّا نراهما بأعيننا، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده إنكم لو تَدومون على ما تكونون عندي وفي الذّكر لصافحتكم الملائكة على فرُشِكم وفي طُرُقِكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة)). وكان الصحابة رضي الله عنهم يحرصون على الجلوس للذكر ويسمّونه إيماناً، قال معاذ رضي الله عنه لرجل: "اجلس بنا نؤمن ساعة".
ومن فوائد الذكر أنه سبب لاشتغال اللسان عن الغيبة والنميمة والكذب والفُحش، فمن عوَّد لسانه ذكر الله حفِظه عن الباطل واللغو، ومن يَبِس لسانه عن ذكر الله تعالى ترطّب بكل باطل ولغو وفحش، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
  ومن فوائد ذكر الله عزّ وجل أنه يوجب الضمان والأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في دُنياه وأُخراه فإنّ من نَسِيَ الله سبحانه وتعالى نسي نفسه ومصالحها كما قال تعالى: ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون . وإذا نسي العبد نفسه أعرض عن مصالحها ونسيَها واشتغل عنها فهَلَكت وفسَدت كمن له زرع أو بستان، فلم يُصلِحه ولم يقم عليه وأهمله ونسيَه واشتغل عنه بغيره، فإنه يَفسُد ولا بد.
ومن فوائد الذكر أيضاً أن جميع الأعمال إنما شُرِعت إقامة لذكر الله عزّ وجل ومن أعظمها الصلاة قال جلّ وعلا: وأقم الصلاة لذكري أي لإقامة ذكري. وقال عزّ وجل: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمُنكر ولذِكر الله أكبر . أي أن الصلاة فيها مقصودان عظيمان، وأحدهما أعظم من الآخر، فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وما فيها من ذكر الله أعظم من نَهيِها عن الفحشاء والمنكر.
ومن فوائد الذكر أن المُداومة عليه ينوب عن كثير من الطاعات ويقوم مقامها كما جاء ذلك صريحاً في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن فُقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور أي الأغنياء بالدرجات العلى والنعيم المقيم، يُصلُّون كما نُصلّي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل أموالهم يحجّون بها ويعتمرون ويجاهدون فقال عليه الصلاة والسلام: ((ألا أعلِّمُكم شيئاً تُدركون به من سَبَقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا أحَدَ يكون أفضل منكم إلا من صَنَع مثل ما صنعتم. قالوا: بلى يا رسول الله. قال: تُسبّحون وتحمدون وتُكبّرون خلف كلّ صلاة)) رواه البخاري.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لأن أسبِّح الله تعالى تسبيحات أحبّ إليّ من أن أنفِق عَددهنّ دنانير في سبيل الله عزّ وجل".
ومن فوائد ذكر الله أيضاً أنّه يُعطي الذاكر قوة في قلبه وبدنه فقد أخرج البخاري: عن فاطمة رضي الله عنها أنها شَكَت ما تلقى في يدها من الرحى أي مِما تطْحن فأتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً، فلم تجِدْه، فذكرت ذلك لعائشة فلما جاء أخبرته. قال علي رضي الله عنه: فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذنا مضاجعنا أي أرادا أن يناما، فذهبت فاطمة لتقوم فقال لها: مكانك فجلس بيننا ثم قال: ((ألا أدلّكُما على ما هو خيرٌ لكما من خادم؟ إذا أويتما إلى فِراشكما أو أخذتما مضاجعكما، فكبِّرا الله أربعاً وثلاثين. وسبِّحاه ثلاثاً وثلاثين، واحمداه ثلاثاً وثلاثين، فهذا خيرٌ لكما من خادم)).
ومن فوائد الذكر أن كثرته أمان من النفاق فقد وصَف الله المنافقين بأنّهم قليلو الذكر لله عزّ وجل فقال تعالى: إن المنافقين يُخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كُسالى يُراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا . فمَن أكثر من ذكر الله عزّ وجل برئ من النفاق ولهذا ختَم الله تعالى سورة المنافقين بقوله: يا أيها الذين آمنوا لا تُلْهِكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون .
ومن فوائده أيضاً ما يَحصُل للذاكر من لذة لا يُشبِهُها شيء، فلو لم يكن للعبد من ثوابه إلا اللذة الحاصلة من الذكر والنعيم الذي يُحسّ به الذاكر في قلبه لكفى به، ولهذا سُمِّيت مجالس الذكر رياض الجنّة. قال مالك بن دينار: "ما تلذّذ المُتَلذّذون بمثل ذكر الله عزّ وجل".
ومن فوائد الذكر أن الله عزّ وجل يقبل الدعاء الذي يُقَدّم صاحبه بين يديه ذكر الله، إذِ الذكر أفضل من الدعاء، لأن الذكر ثناء على الله عزّ وجل، والدعاء سؤال العبد حاجته، فالدعاء الذي تَقَدَّمه الذكر أفضلُ وأقرب إلى الإجابة من الدعاء المُجَرَّد عن الذكر.
فاتقوا الله أيها الناس وأديموا ذكر ربّكم بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم وفي كل أحوالكم، فأمّا ذكرَكم ربَّكم بقلوبكم فإنّ معناه: أن يكون القلب متعلّقاً بالله مُعظِّماً له دائماً في قلبه مُستحضِراً نِعَمه التي لا تُحصى، وأما ذكرَكم ربكم بألسِنتكم فهو النُّطق بكلّ ما يُقرِّب إلى الله من تهليل وتكبير وتحميد وتسبيح وقراءة القرآن وقراءة العلوم الشرعية ونُصح العباد للقيام بأوامر الله.
وأما ذكرَكم ربّكم بجوارحِكم فهو كل فِعل يُقرِّب إلى الله عزّ وجل من طهارة وصلاة وزكاة وصوم وحج وبرِ الوالدين وصِلَة الأرحام.
فلازموا عباد الله ذكر ربكم في جميع أوقاتكم وأحوالكم، فإنّ الله مع الذاكرين كما قال سبحانه في الحديث القدسي: ((أنا عند ظنّ عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكَرني في ملأٍ ذكرتُه في ملأٍ خير منهم)) فاللهم اجعلنا من عبادك الذاكرين،  آمين.


البعث

قضية البعث:
ولما كانت قضية البعث والحساب، وإعادة الحياة إلى الموتى بعد تفتت تلك الأجساد واختلاطها بأجزاء الأرض، من معضلات العقيدة، شأنها في ذلك شأن قضية الوحدانية، في الغرابة والاستبعاد، وقد اقتضى هذا الاستبعاد تعجب المنكرين للبعث ووقوعه، ممن يقولون به، ويؤمنون بوقوعه؛ قال تعالى -مبينا وموضحا تعجب هؤلاء المنكرين-:
{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيد} (ق آية 1- 3).
لذلك فقد سلك القرآن الكريم لإثباتها مسالك مختلفة في طريقة العرض والاستدلال، فتارة يذكر الشبهة ثم يرد عليها، وأخرى يذكر الدليل أولا وبعد استقامته يورد القضية، وحيناً يخبر عن وقوع ذلك البعث والحساب خبرا قاطعا، مع طي الدليل لوضوحه.
وقد تجلى مسلك القرآن الكريم في عرضه للقضية بأسلوبه الفطري السهل الواضح؛ لأنه خطاب للفطرة البشرية بما هو في متناول إدراكها وقد عنى القرآن الكريم بقضية البعث عنايته بقضية الوحدانية، فكما تعددت الآيات الدالة على إثبات الوجود الإلهي ووحدانيته فقد كثرت الآيات التي تقرر البعث. وتؤكد وقوعه.
وأعظم حجة لدى المنكرين للبعث، والأحرى أن نسميها أعظم شبهة لديهم هي:
استبعاد إعادة الأجسام بعد تمزقها، وتفتتها، ثم اختلاطها بأجزاء الأرض، إذ تصبح متصورة

           بصورة التراب، فكيف يمكن إعادتها إلى حالتها التي كانت عليها من قبل!؟
هذا أمر غريب على عقول المنكرين، وعجيب في نفس الوقت عندهم، والحديث عنه خرافة، والمتحدث به، إما مفتر على الله الكذب، وإما مجنون سلب عقله، فخيل له جنونه ذلك الحديث وأجراه على لسانه.
وقد عبر شاعرهم عن ذلك الإنكار، مبينا أن الحديث عنه خرافة بقوله:
حيـاة ثم مـوت ثم نشـــر                                حديث خرافة يا أم عمـــرو
أيـوعدني ابن كبشـه أن سنحيا                        وكيف حيـاة أصـداء وهـام1
ويقول الحق جلّ شأنه، مخبرا عن ذلك الجحود العنيد والإنكار الشديد، ونسبتهم إلى قائله الجنون، أو الكذب والافتراء على الله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} (سبأ آية 7- 9).
فقد عجب كفار قريش من هذا الحديث الذي لم تستوعبه عقولهم، فظنوا أن هذا الإيجاد عبث لأن الحديث عن بعث هذه الأجسام لمجازاتها على أعمالها في حياتها الدنيا حديث خرافة، أو حديث كذب وافتراء على الله، أو مس من جنون أصاب قائله، فأجرى على لسانه هذا الحديث العجيب الغريب، ولذا فقد انطلقوا يخاطب بعضهم بعضا، بهذا القول الذي حكاه الله عنهم، قائلين
{هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ} أي يحدثكم أو يخبركم بما تتعجبون منه لغرابته، وهو: إنكم إذا مزقتم كل ممزق، فتفرقت أجسامكم، واختلطت بأجزاء الأرض، فأصبحتم ترابا. {إِنَّكُمْ} بعد ذلك كله {لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}؛ أي ستخلقون خلقا جديدا فتعودون كما كنتم. ثم قالوا بعد ذلك التعجب والاستغراب: إن هذا الحديث الصادر من هذا الرجل، ما هو إلا افتراء على الله وكذب عليه، {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} أو أن قائله مسلوب العقل فجنونه يوهمه ذلك الأمر ويلقيه على لسانه {أَمْ بِهِ جِنَّةٌ}.
وقد بين الله سبحانه وتعالى. أن الأمر ليس كما ذكروا، فليس الرسول صلى الله عليه وسلم مفتريا على الله، كما أنه لم يمسه جنون، وإنما الأمر راجع إليهم هم، فعدم إيمانهم بالآخرة المترتب على عدم الإيمان بقدرة الله، هو اختلال في العقل، وغاية الضلال عن الفهم الإدراك، لقدرة الخالق وجلال حكمته
          لا سيما وأدلة القدرة على ذلك مشهودة ومعاينة، ثم ذكرهم بتلك الأدلة فقال:{ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً} الآية: أي دلالة واضحة على قدرة الله، فكيف يستبعد عليه إعادة تلك الأجسام الضعيفة بعد تفرقها، وهو القادر على خلق هذه الآيات العظيمة، من السماء والأرض، ذلك هو دليل البعث؛ لأنه يدل على كمال القدرة، ومن المقدور عليه إعادة خلق الإنسان وإيجاده مرة أخرى، وقد قرن هذا الدليل بالتهديد حيث قال: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ}، ثم بين تعالى أن المنتفع بتلك الآيات كل من يرجع إلى ربه، ويتوب إليه، لا من يتمادى في عناده وتعصبه، فقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}.
مسالك القرآن الكريم:
ذكرنا في التمهيد أن القرآن الكريم في معالجته لقضية البعث والجزاء، تارة يعرض شبهة المنكرين ثم يرد عليها، وأخرى يذكر الدليل على البعث أولا، وبعد أن يتقرر ويتضح يورد القضية، وحينا يخبر عن وقوع البعث والجزاء خبرا قاطعا مع طي الدليل لوضوحه. ولما كان القرآن الكريم قد أستوعب عددا كثيرا من الآيات التي تعالج هذا الموضوع فسنعرض نماذج منها تحت المسالك المشار إليها، إذ لا سبيل إلى استيعاب تلك الآيات كلها في هذا البحث.
المسلك الأول: عرض الشبهة ثم الرد عليها:
أشرنا في التمهيد إلى أن أعظم شبهة عند المنكرين للبعث، هي شبهة الاستبعاد، فقد قالوا: كيف يمكن إعادة الأجسام إلى حالتها الطبيعية التي كانت عليها، بعد أن صارت ترابا؟؟ ذلك أمر غير معقول عندهم.
وفي النموذج التالي عرض لهذه الشبهة، وبيان لإنكارهم وتعجبهم ممن يؤمنون بالبعث، ثم دحض لتلك الشبهة، وبيان لزيفها بالأدلة الواضحة البينة المشهودة.
يقول اللّه تعـالى حاكيـا عن المشركين استبعـادهم وقوع البعث بعد الموت، وعدم
إمكانه، وتعجبهم من شأنه وشأن القائل به:
{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}.
{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ}.

          {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيد} (ق. آية ا- 3).
يقسم تبارك وتعالى بالقرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي هو تنزيل من حكيم حميد، وجواب القسم هو مضمون الكلام الآتي بعد القسم، وهو إثبات النبوة، وإثبات المعاد وتقريره وتحقيقه1 ، ثم يحكي تعجب المشركين من أن يأتيهم منذر منهم، أي بشر من جنسهم، ولم يكون من جنس آخر كـالملائكة مثلا ؟
ثم يتبع ذلك بما هو أعجب عندهم من دعوى النبوة، وهو إخبار الرسول لهم، بأن بعد هذه الحياة الدنيا حياة أخرى، وهي بعثهم من قبورهم أحياء، مرة ثانية، للحساب والجزاء على الأعمال الكائنة منهم في تلك الحياة الماضية، إذ كيف يمكن وقوع ذلك الحساب بعد ما تمزقت الأجسام وتفرقت بحيث أصبحت ترابا؟؟.
إن القول برجعة تلك الأجسـام مرة أخرى أمر مستبعد، ومستحيل في اعتقادهم،
{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيد}.
لكن هذه الاستحالة وذلك الاستبعاد الذي يعبرون عنه بالنسبة لمن ؟؟
هل يكون بالنسبة للقدرة الإلهية التي إذا أرادت الشيء قالت له كن فيكون في نفس اللحظة من غير توقف على شيء آخر أصلاً؟؟.
أو يكون بالنسبة لقُدَرهم العاجزة؟؟
الواقع أنهم يعبرون بذلك عن أنفسهم، ويستبعدون البعث ووقوعه ظنا منهم أن قدرة الله تشبه قدرتهم، فقاسوا قدرة الله على قدرتهم، وقياس الغائب على الشاهد باطل في نظر العقلاء، ولذلك صور الله عز وجل هذا الظن الخاطئ في قوله تعالى:
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} (يس آية- 78)، ولذا فقد استعظمت عقولهم هذا الأمر، وجعلته في حكم المستحيل، و إلا فلو نظروا بغير هذه النظرة القاصرة، وتأملوا في أنفسهم في مبدأ خلقهم ، وفيما بين أيديهم من الآيات الدالة على القدرة الإلهية التي لا يعجزها شيء متى ما أرادته لما صدر منهم هذا القول المنكر.
وبعد ذكره تعالى للشبهة التي يتكئون عليها يبدأ في الرد عليهم فيقول:
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ}.
{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}.

                                                                                                                              أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ}.
{وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}.
{تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}.
{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ}.
{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ}.
{رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}
(ق الآيات من 4- 11).
فنراه تبارك وتعالى يحشد في هذه الآيات عددا من الأدلة، المعنوية منها والحسية المشاهدة، التي تخاطب العقل وتستثير الوجدان.
أ- الأدلة المعنويـة (العقليـة):
بين سبحانه وتعالى في الآية الأولى، أنه لا مكان لهذا الجحد، ولا وجه لذلك الاستبعاد، فإعادة الأجسام إلى ما كانت عليه أولا، بعد تمزقها واختلاطها بأجزاء الأرض من الأمور اليسيرة على القدرة الإلهية، ذلك أن إعادة الشيء المتفرق أجزاء، أو المستحيل عن صورته إلى صورة أخرى، كتحول الجسم البشري إلى صورة التراب مثلا، يتوقف على أمرين:
أحـدهما: العلم بتلك الأجزاء المتفرقة، أو بتلك الصورة المستحيلة عن صورتها الأصلية.
ثانيهمـا: القدرة على إعادة تلك الأجزاء- أو تلك الصورة إلى حالتها السابقة وقد أوضحت الآية الكريمة أن علم الله شامل ومحيط، فهو تعالى يعلم أين ذهبت تلك الأجزاء وكيف تفرقت فقد عم علمه جميع الكائنات، صغيرها وكبيرها، حتى انتهى إلى حيث علم ما تنقص الأرض من أجساد الموتى، وتأكل من لحومهم وعظامهم، فإذا كان ذلك معلوما لله تعالى، ومكتوبا ومحفوظا، كما قال تعالى
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} فكيف يستبعد عليه إعادتهم -بعد حالتهم تلك- أحياء كما كانوا ؟!.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: ما بين النفختين أربعون، قالوا: يا أبا هريرة، أربعون يوما، قال: أبيت. قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت قالوا: أربعون شهرا ؟  قال: أبيت. ويبلى كل شيء من الإنسان
           إلا عجب ذنبه فيه يركب الخلق 1 .
فدل الحديث على نقص جسم الإنسان وتحلله، وذهابه في الأرض، إلا ذلك الجزء وهو عجب الذنب، الذي قيل أنه كحبة الخردل 2 ، وفيه يركب الإنسان، فيبقى بعينه، والحديث على ظاهره عند جمهور العلماء. وقد خالف المزني فقال: إنّ ((إلا)) بمعنى الواو، أي وعجب الذنب أيضا يبلى. ورد قوله هذا بما جاء مصرحا به في رواية مسلم من أن الأرض لا تأكله أبدا. ونص الرواية في صحيح مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم
"إنّ في الإنسان عظما لا تأكله الأرض أبدا فيه يركب يوم القيامة" قالوا: أي عظم هو؟ يا رسول اللّه قال: "عجب الذنب" 3 ذاك دليل العلم.
أما دليل القدرة على الإعادة، فقد بينته الآيات التالية لهذه الآية، وهى الآيات المشتملة على الأدلة الحسية المشاهدة، كخلق السماء، والأرض، فالقادر على خلقهما مع عظمهما، قادر على إعادة الإنسان الضعيف من باب أولى، ثم إن الإعادة للمعدوم الممكن، من الأمور الممكنة عقلا.
فالعقل لا يمنع من أن مَن قدر على إيجاد الشيء أولاً، قادر على إعادته بعد عدمه ثانيا فإن ذلك من الأمور الممكنة التي لا يستطيع العقل السليم إنكارها.
وبعد أن بين الله لهم شمول علمه، وإحاطته بالجزئيات والكليات -إذ أن العالم بجزئيات الأشياء لا تخفى عليه كلياتها- بين لهم سبب اضطرابهم في أمر البعث وأنه تكذيبهم للحق الذي جاءهم من خلقهم، إذ الأخبار عنه حق، والمخبر به صادق قال تعالى
{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} أي مضطرب غير مستقر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ   
(1) محمد بن إسماعيل البخاري صحيح البخاري كتاب التفسير باب ونفخ في الصور ... رقم الحديث 4814 من فتح الباري ج 8 ص 551.
وقول أبو هريرة (( أبيت )) معناه أبيت أن أجزم بأن المراد أربعون يوما ...الخ بل الذي أجزم به أنها أربعون مجملة وذلك الذي سمعت.
وقد روى الحديث الإمام مسلم في صحيحه في/كتاب الفتن/باب 28 ما بين النفختين/رقم الحديث 141 ج4 ص227 ترقيم عبد الباقي وفيه ((ثم ينزل الله من السماء فينبتون كما ينبت البقل)) وبهذه الزيادة رواه البخاري أيضا في كتاب التفسير/باب يوم ينفخ في الصور ج8 ص689 في فتح الباري رقم الحديث 4935.
(2) جاء ذلك في حديث أبي سعيد عند الحاكم وأبي يعلى قيل يا رسول الله ما عجب الذنب؟ قال "مثل حبة خردل" والعجب بفتح المهملة وسكون الجيم بعدها موحدة ويقال له ((عجم)) بالميم أيضا عوض الباء وهو: عظم لطيف في أصل الصلب، وهو رأس العصعص، وهو مكان في رأس الذنب من ذوات الأربع فتح الباري ج8 ص552.
(3) مسلم صحيح مسلم /كتاب الفتن وأشراط الساعة/ باب ما بين النفختين رقم الحديث 143ج4ص2271 ترقيم عبد الباقي.

ص -72-         ب- الأدلة الحسيـة: وبعد ذكره تعالى لشمول علمه واحاطته، ثم بيانه لسبب اضطرا بهم في أمر البعث، اتجه إلى نوع آخر من الأدلة، وهي الأدلة الحسية المشاهدة، الدالة على كمال قدرته سبحانه وتعالى، فقال تعالى منكرا عليهم عدم اعتبارهم بهذه الأدلة المشهودة على القدرة الإلهية: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} فهذه السماء التي يدرجون تحتها أفلا ينظرون إلى إبداعها وحسنها، وأحكام بنائها، وما زينت به من كواكب ثابتة وسيارة، ألم يأخذوا منها دليلا على القدرة المبدعة التي لا يعجزها شيء.
وهذه الأرض التي يسعون عليها، أفلا ينظرون إليها، كيف مدت لهم وأرسيت بالجـبال لئلا تضطرب بهم، وما أنبتنا فيها من الأنواع المختلفة الطعوم والأشكال رزقا للعباد قال تعالى:
{وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}، ثم بين تعالى أن هذه الآيات الكونية جميعها أوجدها تبارك وتعالى {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى} أي تبصيرا وتذكيرا {لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} راجع إلى ربه متفكر في بدائع صنعه.
ثم تابع الأدلة الحسية على البعث، فضرب لهم مثلا بإحياء الأرض بعد موتها فقال:
{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}.
فهذا مثل ضربه الله لمنكري البعث بما يشاهدونه من حال الأرض قبل نزول المطر عليها وهى جدباء مقفرة، فحين ينزل عليها الماء تهتز وتربو فتنبت من كل زوج بهيج، أي: حسن المنظر، وذلك بعد ما كانت يابسة لإنبات فيها، فأصبحت تهتز خضراء 1 .
فهذا مثال للبعث والإحياء بعد الموت والهلاك، ولذلك يقول جل شأنه
{كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} يقول جل شأنه أي مثل ذلك الإخراج للنبات من الأرض يحيي الله الموتى فيخرجهم من قبورهم أحياء للحساب والثواب والعقاب.
فهذا المشاهد بالإحساس من آثار قدرته تعالى أعظم مما أنكره الجاحدون للبعث؛ كخلق السماء والأرض قال تعالى: 
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الأحقاف آية 33) وإحياء الأرض بعد موتها كما قال تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} (فصلت آية 39).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ  

                                   سامى العقيبى