الجمعة، 13 أبريل 2012

البعث

قضية البعث:
ولما كانت قضية البعث والحساب، وإعادة الحياة إلى الموتى بعد تفتت تلك الأجساد واختلاطها بأجزاء الأرض، من معضلات العقيدة، شأنها في ذلك شأن قضية الوحدانية، في الغرابة والاستبعاد، وقد اقتضى هذا الاستبعاد تعجب المنكرين للبعث ووقوعه، ممن يقولون به، ويؤمنون بوقوعه؛ قال تعالى -مبينا وموضحا تعجب هؤلاء المنكرين-:
{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيد} (ق آية 1- 3).
لذلك فقد سلك القرآن الكريم لإثباتها مسالك مختلفة في طريقة العرض والاستدلال، فتارة يذكر الشبهة ثم يرد عليها، وأخرى يذكر الدليل أولا وبعد استقامته يورد القضية، وحيناً يخبر عن وقوع ذلك البعث والحساب خبرا قاطعا، مع طي الدليل لوضوحه.
وقد تجلى مسلك القرآن الكريم في عرضه للقضية بأسلوبه الفطري السهل الواضح؛ لأنه خطاب للفطرة البشرية بما هو في متناول إدراكها وقد عنى القرآن الكريم بقضية البعث عنايته بقضية الوحدانية، فكما تعددت الآيات الدالة على إثبات الوجود الإلهي ووحدانيته فقد كثرت الآيات التي تقرر البعث. وتؤكد وقوعه.
وأعظم حجة لدى المنكرين للبعث، والأحرى أن نسميها أعظم شبهة لديهم هي:
استبعاد إعادة الأجسام بعد تمزقها، وتفتتها، ثم اختلاطها بأجزاء الأرض، إذ تصبح متصورة

           بصورة التراب، فكيف يمكن إعادتها إلى حالتها التي كانت عليها من قبل!؟
هذا أمر غريب على عقول المنكرين، وعجيب في نفس الوقت عندهم، والحديث عنه خرافة، والمتحدث به، إما مفتر على الله الكذب، وإما مجنون سلب عقله، فخيل له جنونه ذلك الحديث وأجراه على لسانه.
وقد عبر شاعرهم عن ذلك الإنكار، مبينا أن الحديث عنه خرافة بقوله:
حيـاة ثم مـوت ثم نشـــر                                حديث خرافة يا أم عمـــرو
أيـوعدني ابن كبشـه أن سنحيا                        وكيف حيـاة أصـداء وهـام1
ويقول الحق جلّ شأنه، مخبرا عن ذلك الجحود العنيد والإنكار الشديد، ونسبتهم إلى قائله الجنون، أو الكذب والافتراء على الله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} (سبأ آية 7- 9).
فقد عجب كفار قريش من هذا الحديث الذي لم تستوعبه عقولهم، فظنوا أن هذا الإيجاد عبث لأن الحديث عن بعث هذه الأجسام لمجازاتها على أعمالها في حياتها الدنيا حديث خرافة، أو حديث كذب وافتراء على الله، أو مس من جنون أصاب قائله، فأجرى على لسانه هذا الحديث العجيب الغريب، ولذا فقد انطلقوا يخاطب بعضهم بعضا، بهذا القول الذي حكاه الله عنهم، قائلين
{هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ} أي يحدثكم أو يخبركم بما تتعجبون منه لغرابته، وهو: إنكم إذا مزقتم كل ممزق، فتفرقت أجسامكم، واختلطت بأجزاء الأرض، فأصبحتم ترابا. {إِنَّكُمْ} بعد ذلك كله {لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}؛ أي ستخلقون خلقا جديدا فتعودون كما كنتم. ثم قالوا بعد ذلك التعجب والاستغراب: إن هذا الحديث الصادر من هذا الرجل، ما هو إلا افتراء على الله وكذب عليه، {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} أو أن قائله مسلوب العقل فجنونه يوهمه ذلك الأمر ويلقيه على لسانه {أَمْ بِهِ جِنَّةٌ}.
وقد بين الله سبحانه وتعالى. أن الأمر ليس كما ذكروا، فليس الرسول صلى الله عليه وسلم مفتريا على الله، كما أنه لم يمسه جنون، وإنما الأمر راجع إليهم هم، فعدم إيمانهم بالآخرة المترتب على عدم الإيمان بقدرة الله، هو اختلال في العقل، وغاية الضلال عن الفهم الإدراك، لقدرة الخالق وجلال حكمته
          لا سيما وأدلة القدرة على ذلك مشهودة ومعاينة، ثم ذكرهم بتلك الأدلة فقال:{ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً} الآية: أي دلالة واضحة على قدرة الله، فكيف يستبعد عليه إعادة تلك الأجسام الضعيفة بعد تفرقها، وهو القادر على خلق هذه الآيات العظيمة، من السماء والأرض، ذلك هو دليل البعث؛ لأنه يدل على كمال القدرة، ومن المقدور عليه إعادة خلق الإنسان وإيجاده مرة أخرى، وقد قرن هذا الدليل بالتهديد حيث قال: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ}، ثم بين تعالى أن المنتفع بتلك الآيات كل من يرجع إلى ربه، ويتوب إليه، لا من يتمادى في عناده وتعصبه، فقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}.
مسالك القرآن الكريم:
ذكرنا في التمهيد أن القرآن الكريم في معالجته لقضية البعث والجزاء، تارة يعرض شبهة المنكرين ثم يرد عليها، وأخرى يذكر الدليل على البعث أولا، وبعد أن يتقرر ويتضح يورد القضية، وحينا يخبر عن وقوع البعث والجزاء خبرا قاطعا مع طي الدليل لوضوحه. ولما كان القرآن الكريم قد أستوعب عددا كثيرا من الآيات التي تعالج هذا الموضوع فسنعرض نماذج منها تحت المسالك المشار إليها، إذ لا سبيل إلى استيعاب تلك الآيات كلها في هذا البحث.
المسلك الأول: عرض الشبهة ثم الرد عليها:
أشرنا في التمهيد إلى أن أعظم شبهة عند المنكرين للبعث، هي شبهة الاستبعاد، فقد قالوا: كيف يمكن إعادة الأجسام إلى حالتها الطبيعية التي كانت عليها، بعد أن صارت ترابا؟؟ ذلك أمر غير معقول عندهم.
وفي النموذج التالي عرض لهذه الشبهة، وبيان لإنكارهم وتعجبهم ممن يؤمنون بالبعث، ثم دحض لتلك الشبهة، وبيان لزيفها بالأدلة الواضحة البينة المشهودة.
يقول اللّه تعـالى حاكيـا عن المشركين استبعـادهم وقوع البعث بعد الموت، وعدم
إمكانه، وتعجبهم من شأنه وشأن القائل به:
{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}.
{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ}.

          {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيد} (ق. آية ا- 3).
يقسم تبارك وتعالى بالقرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي هو تنزيل من حكيم حميد، وجواب القسم هو مضمون الكلام الآتي بعد القسم، وهو إثبات النبوة، وإثبات المعاد وتقريره وتحقيقه1 ، ثم يحكي تعجب المشركين من أن يأتيهم منذر منهم، أي بشر من جنسهم، ولم يكون من جنس آخر كـالملائكة مثلا ؟
ثم يتبع ذلك بما هو أعجب عندهم من دعوى النبوة، وهو إخبار الرسول لهم، بأن بعد هذه الحياة الدنيا حياة أخرى، وهي بعثهم من قبورهم أحياء، مرة ثانية، للحساب والجزاء على الأعمال الكائنة منهم في تلك الحياة الماضية، إذ كيف يمكن وقوع ذلك الحساب بعد ما تمزقت الأجسام وتفرقت بحيث أصبحت ترابا؟؟.
إن القول برجعة تلك الأجسـام مرة أخرى أمر مستبعد، ومستحيل في اعتقادهم،
{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيد}.
لكن هذه الاستحالة وذلك الاستبعاد الذي يعبرون عنه بالنسبة لمن ؟؟
هل يكون بالنسبة للقدرة الإلهية التي إذا أرادت الشيء قالت له كن فيكون في نفس اللحظة من غير توقف على شيء آخر أصلاً؟؟.
أو يكون بالنسبة لقُدَرهم العاجزة؟؟
الواقع أنهم يعبرون بذلك عن أنفسهم، ويستبعدون البعث ووقوعه ظنا منهم أن قدرة الله تشبه قدرتهم، فقاسوا قدرة الله على قدرتهم، وقياس الغائب على الشاهد باطل في نظر العقلاء، ولذلك صور الله عز وجل هذا الظن الخاطئ في قوله تعالى:
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} (يس آية- 78)، ولذا فقد استعظمت عقولهم هذا الأمر، وجعلته في حكم المستحيل، و إلا فلو نظروا بغير هذه النظرة القاصرة، وتأملوا في أنفسهم في مبدأ خلقهم ، وفيما بين أيديهم من الآيات الدالة على القدرة الإلهية التي لا يعجزها شيء متى ما أرادته لما صدر منهم هذا القول المنكر.
وبعد ذكره تعالى للشبهة التي يتكئون عليها يبدأ في الرد عليهم فيقول:
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ}.
{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}.

                                                                                                                              أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ}.
{وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}.
{تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}.
{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ}.
{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ}.
{رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}
(ق الآيات من 4- 11).
فنراه تبارك وتعالى يحشد في هذه الآيات عددا من الأدلة، المعنوية منها والحسية المشاهدة، التي تخاطب العقل وتستثير الوجدان.
أ- الأدلة المعنويـة (العقليـة):
بين سبحانه وتعالى في الآية الأولى، أنه لا مكان لهذا الجحد، ولا وجه لذلك الاستبعاد، فإعادة الأجسام إلى ما كانت عليه أولا، بعد تمزقها واختلاطها بأجزاء الأرض من الأمور اليسيرة على القدرة الإلهية، ذلك أن إعادة الشيء المتفرق أجزاء، أو المستحيل عن صورته إلى صورة أخرى، كتحول الجسم البشري إلى صورة التراب مثلا، يتوقف على أمرين:
أحـدهما: العلم بتلك الأجزاء المتفرقة، أو بتلك الصورة المستحيلة عن صورتها الأصلية.
ثانيهمـا: القدرة على إعادة تلك الأجزاء- أو تلك الصورة إلى حالتها السابقة وقد أوضحت الآية الكريمة أن علم الله شامل ومحيط، فهو تعالى يعلم أين ذهبت تلك الأجزاء وكيف تفرقت فقد عم علمه جميع الكائنات، صغيرها وكبيرها، حتى انتهى إلى حيث علم ما تنقص الأرض من أجساد الموتى، وتأكل من لحومهم وعظامهم، فإذا كان ذلك معلوما لله تعالى، ومكتوبا ومحفوظا، كما قال تعالى
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} فكيف يستبعد عليه إعادتهم -بعد حالتهم تلك- أحياء كما كانوا ؟!.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: ما بين النفختين أربعون، قالوا: يا أبا هريرة، أربعون يوما، قال: أبيت. قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت قالوا: أربعون شهرا ؟  قال: أبيت. ويبلى كل شيء من الإنسان
           إلا عجب ذنبه فيه يركب الخلق 1 .
فدل الحديث على نقص جسم الإنسان وتحلله، وذهابه في الأرض، إلا ذلك الجزء وهو عجب الذنب، الذي قيل أنه كحبة الخردل 2 ، وفيه يركب الإنسان، فيبقى بعينه، والحديث على ظاهره عند جمهور العلماء. وقد خالف المزني فقال: إنّ ((إلا)) بمعنى الواو، أي وعجب الذنب أيضا يبلى. ورد قوله هذا بما جاء مصرحا به في رواية مسلم من أن الأرض لا تأكله أبدا. ونص الرواية في صحيح مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم
"إنّ في الإنسان عظما لا تأكله الأرض أبدا فيه يركب يوم القيامة" قالوا: أي عظم هو؟ يا رسول اللّه قال: "عجب الذنب" 3 ذاك دليل العلم.
أما دليل القدرة على الإعادة، فقد بينته الآيات التالية لهذه الآية، وهى الآيات المشتملة على الأدلة الحسية المشاهدة، كخلق السماء، والأرض، فالقادر على خلقهما مع عظمهما، قادر على إعادة الإنسان الضعيف من باب أولى، ثم إن الإعادة للمعدوم الممكن، من الأمور الممكنة عقلا.
فالعقل لا يمنع من أن مَن قدر على إيجاد الشيء أولاً، قادر على إعادته بعد عدمه ثانيا فإن ذلك من الأمور الممكنة التي لا يستطيع العقل السليم إنكارها.
وبعد أن بين الله لهم شمول علمه، وإحاطته بالجزئيات والكليات -إذ أن العالم بجزئيات الأشياء لا تخفى عليه كلياتها- بين لهم سبب اضطرابهم في أمر البعث وأنه تكذيبهم للحق الذي جاءهم من خلقهم، إذ الأخبار عنه حق، والمخبر به صادق قال تعالى
{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} أي مضطرب غير مستقر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ   
(1) محمد بن إسماعيل البخاري صحيح البخاري كتاب التفسير باب ونفخ في الصور ... رقم الحديث 4814 من فتح الباري ج 8 ص 551.
وقول أبو هريرة (( أبيت )) معناه أبيت أن أجزم بأن المراد أربعون يوما ...الخ بل الذي أجزم به أنها أربعون مجملة وذلك الذي سمعت.
وقد روى الحديث الإمام مسلم في صحيحه في/كتاب الفتن/باب 28 ما بين النفختين/رقم الحديث 141 ج4 ص227 ترقيم عبد الباقي وفيه ((ثم ينزل الله من السماء فينبتون كما ينبت البقل)) وبهذه الزيادة رواه البخاري أيضا في كتاب التفسير/باب يوم ينفخ في الصور ج8 ص689 في فتح الباري رقم الحديث 4935.
(2) جاء ذلك في حديث أبي سعيد عند الحاكم وأبي يعلى قيل يا رسول الله ما عجب الذنب؟ قال "مثل حبة خردل" والعجب بفتح المهملة وسكون الجيم بعدها موحدة ويقال له ((عجم)) بالميم أيضا عوض الباء وهو: عظم لطيف في أصل الصلب، وهو رأس العصعص، وهو مكان في رأس الذنب من ذوات الأربع فتح الباري ج8 ص552.
(3) مسلم صحيح مسلم /كتاب الفتن وأشراط الساعة/ باب ما بين النفختين رقم الحديث 143ج4ص2271 ترقيم عبد الباقي.

ص -72-         ب- الأدلة الحسيـة: وبعد ذكره تعالى لشمول علمه واحاطته، ثم بيانه لسبب اضطرا بهم في أمر البعث، اتجه إلى نوع آخر من الأدلة، وهي الأدلة الحسية المشاهدة، الدالة على كمال قدرته سبحانه وتعالى، فقال تعالى منكرا عليهم عدم اعتبارهم بهذه الأدلة المشهودة على القدرة الإلهية: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} فهذه السماء التي يدرجون تحتها أفلا ينظرون إلى إبداعها وحسنها، وأحكام بنائها، وما زينت به من كواكب ثابتة وسيارة، ألم يأخذوا منها دليلا على القدرة المبدعة التي لا يعجزها شيء.
وهذه الأرض التي يسعون عليها، أفلا ينظرون إليها، كيف مدت لهم وأرسيت بالجـبال لئلا تضطرب بهم، وما أنبتنا فيها من الأنواع المختلفة الطعوم والأشكال رزقا للعباد قال تعالى:
{وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}، ثم بين تعالى أن هذه الآيات الكونية جميعها أوجدها تبارك وتعالى {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى} أي تبصيرا وتذكيرا {لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} راجع إلى ربه متفكر في بدائع صنعه.
ثم تابع الأدلة الحسية على البعث، فضرب لهم مثلا بإحياء الأرض بعد موتها فقال:
{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}.
فهذا مثل ضربه الله لمنكري البعث بما يشاهدونه من حال الأرض قبل نزول المطر عليها وهى جدباء مقفرة، فحين ينزل عليها الماء تهتز وتربو فتنبت من كل زوج بهيج، أي: حسن المنظر، وذلك بعد ما كانت يابسة لإنبات فيها، فأصبحت تهتز خضراء 1 .
فهذا مثال للبعث والإحياء بعد الموت والهلاك، ولذلك يقول جل شأنه
{كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} يقول جل شأنه أي مثل ذلك الإخراج للنبات من الأرض يحيي الله الموتى فيخرجهم من قبورهم أحياء للحساب والثواب والعقاب.
فهذا المشاهد بالإحساس من آثار قدرته تعالى أعظم مما أنكره الجاحدون للبعث؛ كخلق السماء والأرض قال تعالى: 
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الأحقاف آية 33) وإحياء الأرض بعد موتها كما قال تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} (فصلت آية 39).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ  

                                   سامى العقيبى