الأربعاء، 31 ديسمبر 2014

افتراق الامة


         
                        الافتراق والشرذمه
                      ........................

{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ }الشورى13
{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }آل عمران103
{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً }النساء146
{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ }الحج78
{وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ }المائدة56
{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }المؤمنون53
{مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }الروم32
{وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }الأنفال46
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }البقرة213
ِلكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }المائدة48
{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }يونس19
{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ }هود118
{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ }الأنبياء92
{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ }المؤمنون52
{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ }آل عمران19
{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }آل عمران85
{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ }الأنعام65
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }الأنعام159



سبب افتراق الامة الى 73 شعبة

ويقول بعض الناس: إن تفرق الأمة أمر لازم فرضه القدر وأخبر به الشرع فلا مناص منه، ولا مهرب منه.

يدل لذلك:

1.
ما جاء من أحاديث تكاثرت واستفاضت تنبئ بأن الله تعالى جعل بأس هذه الأمة بينها.

2.
حديث افتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة.

معنى جعل بأس هذه الأمة بينها:

أما أحاديث جعل هذه الأمة بأسها بينها، وتسليط بعضها على بعض، فهي أحاديث صحيحة مستفيضة رويت عن عدد من الصحابة، منهم سعد بن أبي وقاص وثوبان، وجابر بن عتيك، وأنس بن مالك، وحذيفة ومعاذ بن جبل، وخباب بن الأرت، وشداد بن أوس، وخالد الخزاعي، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس وأبي هريرة.

وقد ذكر هذه الأحاديث الحافظ ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض) (سورة الأنعام: 65).

واكتفي من هذه الأحاديث بثلاثة:

ما رواه أحمد ومسلم عن سعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين، وصلينا معه، ودعا ربه طويلا، ثم انصرف إلينا فقال صلى الله عليه وسلم: "سألت ربي ثلاثا، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة أعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها".

وروى الإمام أحمد وغيره عن خباب بن الأرت: راقبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة صلاها كلها، حتى كان مع الفجر، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته، فقلت: يا رسول الله، لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت مثلها! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل إنها صلاة رغب ورهب! سألت ربي عز وجل فيها ثلاث خصال، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألت ربي عز وجل أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا، فأعطانيها، وسألت ربي عز وجل أن لا يظهر علينا عدوا من غيرنا، فأعطانيها، وسألت ربي عز وجل أن لا يلبسنا شيعا فمنعنيها".

فروى مسلم عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوى لي الأرض، فأريت مشارقها ومغاربها.." الحديث.

والأحاديث المذكورة ـ وما في معناها مما لم نذكره ـ واضحة الدلالة على المراد، وهو أن الله تعالى ضمن لنبيه صلى الله عليه وسلم في أمته أمرين كرامة له عليه الصلاة والسلام، وأجاب دعوته فيهما:

الأول: أن لا يهلكها بما أهلك به الأمم السابقة بمثل الغرق الذي أهلك الله به القوم نوح، أو فرعون وجنوده، أو بالسنين أي المجاعات الماحقة التي تهلك بها الأمة كافة، أو بغير ذلك من الرجم من فوقهم أو الخسف من تحت أرجلهم.

الثاني: أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم، يسلط عليهم بحيث يستبيح بيضتهم ويستأصل شأفتهم، ويقضي على وجودهم.

ولكن أمرا آخر طلبه النبي صلى الله عليه وسلم من ربه، فلم يجب إليه ولم يضمنه له، وهو: أن لا يلبس هذه الأمة شيعا، ولا يجعل بأسها بينها، فلم يجب الله سبحانه لرسوله الكريم هذا السؤال، وتركه للسنن الكونية والاجتماعية، ولشبكة الأسباب والمسببات.

فالأمة هنا هي مالكة أمر نفسها، لم يجبرها الله على شيء، ولم يخصها ـ في هذا المجال ـ بشيء، فإذا هي استجابت لأمر ربها، وتوجيه نبيها، ودعوة كتابها، ووحدت كلمتها، وجمعت صفها، عزت وسادت وانتصرت على عدو الله وعدوها، وحققت ما يرجوه الإسلام منها، وإن هي استجابت لدعوات الشياطين، وأهواء الأنفس تفرقت بها السبل، وسلط عليها أعداؤها، من خلال تفرقها، وتمزق صفوفها، كما أشار إلى ذلك الحديث "حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا".

والحديث لا يعني بحال أن يكون تفرق الأمة وتسلط بعضها على بعض أمرا لازما، ودائما وعاما، يشمل كل الأزمنة، وكل الأمكنة، وكل الأحوال إلى يوم القيامة.

وإلا لم يكن هناك معنى لقوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) (آل عمران: 103).

ولا لقوله عز وجل: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) (آل عمران: 105).

ولا لقوله سبحانه: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) (سورة الأنفال: 46).

ولا لقوله جل شأنه: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) (سورة الصف: 4).

ولا لقوله عز من قائل: (ولا تكونوا من المشركين. من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، كل حزب بما لديهم فرحون) (سورة الروم: 31-32).

ولا لقوله: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون) (سورة المؤمنين: 52).

ولا لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا".

ولا لقوله عليه الصلاة والسلام: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا".

وقوله: "ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر".

وقوله: "لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا".

إلى غير ذلك من نصوص القرآن والحديث التي أمرت بالاتحاد والائتلاف، ونهت عن التفرق والاختلاف والتي أوجبت على المسلمين أن يكون لهم إمام واحد، وأن لا يبايعوا لخليفتين في وقت واحد، وأن يقاوموا من يريد أن يفرق كلمتهم وأمرهم جميع.. الخ.

ولو كان التفرق قدرا مفروضا على الأمة بصورة عامة ودائمة لكانت هذه الأوامر والنواهي عبثا، لأنها تأمر بما لا يمكن وقوعه، وتنهى عما يستحيل اجتنابه.

والأحاديث التي أخبرت بأن الله لم يسلط على الأمة عدوا من غيرها يقوض بنيانها، ويأتي عليه من القواعد، وإنما تركها لأنفسها، وجعل بأسها بينها ـ لم تخبر بأن هذا أمر واقع في كل بقعة من أرض الإسلام، وفي كل عصر من العصور.

إنما هو داء وبيل تصاب به الأمة كلما تهيأت أسبابه، ولم تتحصن منه بما ينبغي، كما يصاب الفرد بالمرض إذا أهمل الوقاية، أو قصر في العلاج.

وقد يقع في مكان دون مكان، وفي زمان دون زمان، وبين قوم معينين دون غيرهم، ويكفي مثل هذا ليصدق الخبر النبوي.

وقد جاء في بعض الأحاديث، أن جعل بأس الأمة بينها يكون عقوبة من الله لها على انحرافها عن شرعه وكتابه، ولا سيما أئمتها ورؤساؤها. كما جاء في حديث ابن عمر مرفوعا: "وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم".

على أن ما أنذرت به الأحاديث المذكورة من جعل بأس الأمة بينها يمكن أن يفسر بما وقع بالفعل في بعض الأزمنة السابقة، كما وقع في عهد الصحابة أنفسهم من الفتن، وما وقع في عهود من بعدهم، في العصر الأموي ثم في العصر العباسي، مما مهد لدخول الصليبيين من الغرب، والتتار من الشرق، إلى دار الإسلام، والسيطرة على أجزاء منها مدة من الزمان.

وقد بشرت أحاديث أخرى بأن الإسلام ستعلو كلمته، وأنه سيدخل أوروبا مرة أخرى، بعد أن طرد منها مرتين، وأنه سيفتح (رومية) كما فتح من قبل (القسطنطينية) وأنه لا يبقى بيت مدر أو وبر إلا أدخله الله هذا الدين، الذي سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، ومعلوم أن هذا كله لا يمكن أن يتم والأمة ممزقة يضرب بعضها رقاب بعض، إنما يتم ذلك حين تتوحد الكلمة على الإسلام، وتمضي الأمة تحت راية الإيمان.

إلى الأعلى

حديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة:

أما حديث افتراق الأمة إلى فرق فوق السبعين كلها في النار إلا واحدة، ففيه كلام كثير في ثبوته وفي دلالته.

أ- فأول ما ينبغي أن يعلم هنا أن الحديث لم يرد في أي من الصحيحين، برغم أهمية موضوعه، دلالة على أنه لم يصح على شرط واحد منهما.

وما يقال من أنهما لم يستوعبا الصحيح، فهذا مسلم، ولكنهما حرصا أن لا يدعا بابا مهما من أبواب العلم إلا ورويا فيه شيئا ولو حديثا واحدا.

ب- إن بعض روايات الحديث لم تذكر أن الفرق كلها في النار إلا واحدة، وإنما ذكرت الافتراق وعدد الفرق فقط. وهذا هو حديث أبي هريرة الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وفيه يقول:

"
افترقت اليهود على إحدى ـ أو اثنتين ـ وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى ـ أو اثنتين ـ وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة".

والحديث ـ وإن قال فيه الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم ـ مداره على محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، ومن قرأ ترجمته في "تهذيب التهذيب"، علم أن الرجل متكلم فيه من قبل حفظه، وإن أحدا لم يوثقه بإطلاق وكل ما ذكروه أنهم رجحوه على من هو أضعف منه. ولهذا لم يزد الحافظ في التقريب على أن قال: صدوق له أوهام. والصدق وحده في هذا المقام لا يكفي ما لم ينضم إليه الضبط، فكيف إذا كان معه أوهام؟؟‍!

ومعلوم أن الترمذي وابن حبان والحاكم من المتساهلين في التصحيح، وقد وصف الحاكم بأنه واسع الخطو في شرط التصحيح.

وهو هنا صحح الحديث على شرط مسلم، باعتبار أن محمد بن عمرو احتج به مسلم، ورده الذهبي بأنه لم يحتج به منفردا، بل بانضمامه إلى غيره (1/6). على أن هذا الحديث من رواية أبي هريرة ليس فيه زيادة: أن الفرق "كلها في النار إلا واحدة" وهي التي تدور حولها المعركة.

وقد روي الحديث بهذه الزيادة من طريق عدد من الصحابة: عبد الله بن عمرو، ومعاوية، وعوف بن مالك وأنس، وكلها ضعيفة الإسناد، وإنما قووها بانضمام بعضها إلى بعض.

والذي أراه أن التقوية بكثرة الطرق ليست على إطلاقها، فكم من حديث له طرق عدة ضعفوه، كما يبدو ذلك في كتب التخريج، والعلل، وغيرها! وإنما يؤخذ بها فيما لا معارض له، ولا إشكال في معناه.

وهنا إشكال أي إشكال في الحكم بافتراق الأمة أكثر مما افترق اليهود والنصارى من ناحية، وبأن هذه الفرق كلها هالكة وفي النار إلا واحدة منها. وهو يفتح بابا لأن تدعى كل فرقة أنها الناجية، وأن غيرها هو الهالك، وفي هذا ما فيه من تمزيق للأمة وطعن بعضها في بعض، مما يضعفها جميعا، ويقوي عدوها عليها، ويغريه بها.

ولهذا طعن العلامة ابن الوزير في الحديث عامة، وفي هذه الزيادة خاصة، لما تؤدي إليه من تضليل الأمة بعضها لبعض، بل تكفيرها بعضها لبعض.

قال رحمه الله في "العواصم" وهو يتحدث عن فضل هذه الأمة، والحذر من التورط في تكفير أحد منها، قال: وإياك والاغترار بـ "كلها هالكة إلا واحدة" فإنها زيادة فاسدة، غير صحيحة القاعدة، ولا يؤمن أن تكون من دسيس الملاحدة.

قال: وعن ابن حزم: إنها موضوعة، عير موقوفة ولا مرفوعة، وكذلك جميع ما ورد في ذم القدرية والمرجئة والأشعرية، فإنها أحاديث ضعيفة غير قوية.

ج- إن من العلماء قديما وحديثا من رد الحديث من ناحية سنده، ومنهم من رده من ناحية متنه ومعناه.

فهذا أبو محمد بن حزم، يرد على من يكفر الآخرين بسبب الخلاف في الاعتقاديات بأشياء يوردونها.

وذكر من هذه الأشياء التي يحتجون بها في التكفير حديثين يعزونهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هما:

1. "
القدرية والمرجئة مجوس هذه الأمة".

2. "
تفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقة، كلها في النار حاشا واحدة، فهي في الجنة".

قال أبو محمد: هذان حديثان لا يصحان أصلا من طريق الإسناد، وما كان هكذا فليس حجة عند من يقول بخبر الواحد، فكيف من لا يقول به؟

وهذا الإمام اليمني المجتهد، ناصر السنة، الذي جمع بين المعقول والمنقول، محمد بن إبراهيم الوزير يقول في كتابه "العواصم والقواصم" أثناء سرده للأحاديث التي رواها معاوية رضي الله عنه، فكان منها (الحديث الثامن): حديث افتراق الأمة إلى نيف وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا فرقة واحدة، قال: وفي سنده ناصبي، فلم يصح عنه، وروى الترمذي مثله من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال: حديث غريب. ذكره في الإيمان من طريق الإفريقي واسمه عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن يزيد عنه.

وروى ابن ماجه مثله عن عوف بن مالك، وأنس.

قال: وليس فيها شيء على شرط الصحيح، ولذلك لم يخرج الشيخان شيئا منها. وصحح الترمذي منها حديث أبي هريرة من طريق محمد بن عمرو بن علقمة، وليس فيه "كلها في النار إلا فرقة واحدة" وعن ابن حزم: أن هذه الزيادة موضوعة ذكر ذلك صاحب "البدر المنير".

وقد قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى في سورة الأنعام (أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض)، وقد ورد في الحديث المروي من طرق عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة" ولم يزد على ذلك فلم يصفه بصحة ولا حسن، رغم أنه أطال تفسير الآية بذكر الأحاديث والآثار المناسبة له.

وذكر الإمام الشوكاني قول ابن كثير في الحديث ثم قال: قلت: أما زيادة "كلها في النار إلا واحدة" فقد ضعفها جماعة من المحدثين، بل قال ابن حزم: إنها موضوعة.

على أن الحديث ـ وإن حسنه بعض العلماء كالحافظ ابن حجر، أو صححه بعضهم كشيخ الإسلام ابن تيمية بتعدد طرقه ـ لا يدل على أن هذا الافتراق بهذه الصورة وهذا العدد، أمر مؤيد ودائم إلى أن تقوم الساعة، ويكفي لصدق الحديث أن يوجد هذا في وقت من الأوقات.

فقد توجد بعض هذه الفرق، ثم يغلب الحق باطلها، فتنقرض ولا تعود أبدا.

وهذا ما حدث بالفعل لكثير من الفرق المنحرفة، فقد هلك بعضها، ولم يعد لها وجود.

ثم إن الحديث يدل على أن هذه الفرق كلها جزء من أمته صلى الله عليه وسلم أعني أمة الإجابة المنسوبة إليه، بدليل قوله: "تفترق أمتي" ومعنى هذا أنها ـ برغم بدعتها ـ لم تخرج عن الملة، ولم تفصل من جسم الأمة المسلمة.

وكونها (في النار) لا يعني الخلود فيها كما يخلد الكفار، بل يدخلونها كما يدخلها عصاة الموحدين.

وقد يشفع لهم شفيع مطاع من الأنبياء أو الملائكة أو آحاد المؤمنين وقد يكون لهم من الحسنات الماحية أو المحن والمصائب المكفرة، ما يدرأ عنهم العذاب.

وقد يعفو الله عنهم بفضله وكرمه، ولا سيما إذا كانوا قد بذلوا وسعهم في معرفة الحق، ولكنهم لم يوفقوا وأخطئوا الطريق، وقد وضع الله عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه

.

قال ابن رجب رحمه الله تعالى : 

_
ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين وكثر تفرقهم كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم وكل منهم يظهر أنه يبغض لله وقد يكون في نفس الأمر معذورا وقد لا يكون معذورا بل يكون متبعا لهواه مقصرا في البحث عن معرفة ما يبغض عليه 
_ 
فإن كثيرا من البغض كذلك إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق وهذا الظن خطأ قطعا وإن أريد أنه لا يقول إلا الحق فيما خولف فيه فهذا الظن قد يخطئ ويصيب 
_
وقد يكون الحامل على الميل مجرد الهوى أو الإلف أو العادة ، وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغض لله 
_
فالواجب على المؤمن أن ينصح لنفسه ويتحرز في هذا غاية التحرز وما أشكل منه فلا يدخل نفسه فيه خشية أن يقع فيما نهى عنه من البغض المحرم 
_ ** _ 
وهاهنا أمر خفي ينبغي التفطن له وهو 
أن كثيرا من أئمة الدين قد يقول قولا مرجوحا ويكون مجتهدا فيه مأجورا على اجتهاده فيه ، موضوعا عنه خطؤه فيه ، ولا يكون المنتصر لمقالته تلك بمنزلته في هذه الدرجة ، لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله ، بحيث لو أنه قد قاله غيره من أئمة الدين لما قبله ولا انتصر له ولا والى من يوافقه ولا عادى من خالفه ، ولا هو مع هذا يظن أنه إنما انتصر للحق بمنزلة متبوعه ، وليس كذلك ، فإن متبوعه إنما كان قصده الانتصار للحق وإن أخطأ في اجتهاده ، وأما هذا التابع فقد شاب انتصاره لما يظنه الحق إرادة علو متبوعه وظهور كلمته وأنه لا ينسب إلى الخطأ


قال ابن القيِّم رحمه الله تعالى في كتابه القيِّم " الصَّواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة "
السبب الثَّالث : ( من أسباب قبول التَّأويل ) وإن كان كلامه رحمه الله عن أهل التَّجهم والتَّحريف للآيات ، إلا أنَّه ينطبق على كثير من البدع والضَّلالات والأخطاء التي ينشرها البعض ، فيبدأ بعض الجهَّال من المتعصبين بالانتصار لها لأن ذلك الملبِّس أورد اسم الشَّيخ المعظَّم فيها لييبهر به أعينهم .

قال رحمه الله ، السبب الثالث
أن يعزو المتأول تأويله وبدعته إلى جليل القدر نبيه الذكر من العقلاء أو من آل البيت النبوي أو من حل له في الأمة ثناء جميل ولسان صدق ليحليه بذلك في قلوب الأغمار والجهال فإن من شأن الناس تعظيم كلام من يعظم قدره في نفوسهم وأن يتلقوه بالقبول والميل إليه وكلما كان ذلك القائل أعظم في نفوسهم كان قبولهم لكلامه أتم حتى إنهم ليقدمونه على كلام الله ورسوله ويقولون هو أعلم بالله ورسوله منا
وبهذه الطريق توصل الرافضة والباطنية والإسماعيلية والنصيرية إلى تنفيق باطلهم وتأويلاتهم حتى أضافوها إلى أهل بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما علموا أن المسلمين متفقون على محبتهم وتعظيمهم وموالاتهم وإجلالهم فانتموا إليهم وأظهروا من محبتهم وموالاتهم واللهج بذكرهم وذكر مناقبهم ما خيل إلى السامع أنهم أولياؤهم وأولى الناس بهم ثم نفقوا باطلهم وإفكهم بنسبته إليهم فلا إله إلا الله كم من زندقة وإلحاد وبدعة وضلالة قد نفقت في الوجود بنسبتها إليهم وهم براء منها براءة الأنبياء من التجهم والتعطيل وبراءة المسيح من عبادة الصليب والتثليث وبراءة رسول الله من البدع والضلالات
وإذا تأملت هذا السبب رأيته هو الغالب على أكثر النفوس وليس معهم سوى إحسان الظن بالقائل بلا برهان من الله ولا حجة قادتهم إلى ذلك وهذا ميراث بالتعصيب من الذين عارضوا دين الرسل بما كان عليه الآباء والأسلاف فإنهم لحسن ظنهم بهم وتعظيمهم لهم آثروا ما كانوا عليه على ما جاءتهم به الرسل وكانوا أعظم في صدورهم من أن يخالفوهم ويشهدوا عليهم بالكفر والضلال وإنهم كانوا على الباطل وهذا شأن كل مقلد لمن يعظمه فيما خالف فيه الحق إلى يوم القيامة
__________________

قال ابن الجوزي رحمه الله في " صيد الخاطر " ، في كلام له عن انحراف الصُّوفيَّة ( ص 54 _ 60 ) ت : الطنطاوي 
وقد نقلت مواضع منه 
قال رحمه الله : 
1- 
فجاء أقوام، فأظهروا التزهد ، وابتكروا طريقة زينها لهم الهوى ، ثم تطلبوا لها الدليل .
وإنما ينبغي للإنسان أن يتبع الدليل لا أن يتبع طريقاً ويطلب دليلها.
ثم انقسموا: فمنهم، متصنع في الظاهر، ليث الشرى في الباطن.
يتناول في خلواته الشهوات، وينعكف على اللذات. ويري الناس بزيه أنه متصوف متزهد، وما تزهد إلا القميص وإذا نظر إلى أحواله فعنده كبر فرعون.
ومنهم: سليم الباطن، إلا أنه في الشرع جاهل.
ومنهم: من تصدر، وصنف، فاقتدى به الجاهلون في هذه الطريقة، وكانوا كعمي اتبعوا أعمى.
ولو أنهم تلمحوا للأمر الأول ، الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم ، لما ذلوا .
ولقد كان جماعة من المحققين ، لا يبالون بمعظم في النفوس إذا حاد عن الشريعة ، بل يوسعونه لوماً.
فنقل عن أحمد أنه قال له المروزي: ما تقول في النكاح ؟ 
فقال: سنة النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: فقد قال إبراهيم. قال: فصاح بي وقال: جئتنا ببنيات الطريق ؟ 
وقيل له: إن سريا السقطي قال: لما خلق الله تعالى الحروف، وقف الألف وسجدت الباء . 
فقال: نَفِّرُوا الناسَ عَنْهُ.
واعلم أن المحقق لا يهوله اسم معظم 
كما قال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: أتظن أنا نظن أن طلحة والزبير ، كانا على الباطل ؟ 
فقال له: إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله.
ولعمري إنه قد وقر في النفوس تعظيم أقوام ، فإذا نقل عنهم شيء فسمعه جاهل بالشرع قبله ، لتعظيمهم في نفسه.
كما ينقل عن أبي يزيد رضي الله عنه، أنه قال: تراعنت علي نفسي فحلفت لا أشرب الماء سنة.
وهذا إذا صح عنه، كان خطأ قبيحا ً، وزلة فاحشة ، لأن الماء ينفذ الأغذية إلى البدن ، ولا يقوم مقامه شيء ، فإذا لم يشرب فقد سعى في أذى بدنه ، وقد كان يستعذب الماء لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
أفترى هذا فعل من يعلم أن نفسه ليست له، وأنه لا يجوز التصرف فيها إلا عن إذن مالكها...

2- 
واسمع مني بلا محاباة ، لا تحتجن علي بأسماء الرجال، فتقول: قال بشر، وقال إبراهيم بن أدهم، فإن من احتج بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضوان الله عليهم - أقوى على أن لأفعال أولئك وجوهاً نحملها عليهم بحسن الظن ...

3- 
ومن تأمل هذه الأشياء، علم أن فقيهاً واحداً - وإن قل أتباعه ، وخفت إذا مات أشياعه - أفضل من ألوف تتمسح العوام بهم تبركاً ، ويشيع جنائزهم ما لا يحصى .
وهل الناس إلا صاحب أثر نتبعه ، أو فقيه يفهم مراد الشرع ويفتي به ؟.
نعوذ بالله من الجهل، وتعظيم الأسلاف تقليداً لهم بغير دليل !.
فإن من ورد المشرب الأول، رأى سائر المشارب كدرة ، والمحنة العظمى مدائح العوام، فكم غرت ... !!.
كما قال علي رضي الله عنه: ما أبقى خفق النعال وراء الحمقى من عقولهم شيئاً.

قال الإمام أبو بكر الخطيب البغدادى حين تصدى لبيان أوهام أكابر علماء الأمة حقا ، فى مقدمة (( موضح أوهام الجمع والتفريق )) :
((
 ولعلَّ بعضَ من ينظرُ فيما سطرنَاهُ، ويقفُ على ما لكتابنا هذا ضَمَّنَّاهُ؛ يلحقُ سيءَ الظنِّ بنا، ويرى أنَّا عمدنا للطعنِ على من تَقَدَّمَنَا، وإظهارِ العيبِ لكُبَرَاءِ شُيُوخِنَا، وَعُلماءِ سَلَفِنَا! 
وأَنَّى يكونُ ذلكَ وبهم ذُكِرْنَا، وبِشُعَاعِ ضِيَائِهِم تَبَصَّرنَا، وباقتِفَائِنَا واضحَ رُسُوْمِهِم تَمَيَّزنَا، وبسلوكِ سَبِيْلِهِم عن الهَمَجِ تَحَيَّزْنَا. 
وما مثلهم ومثلنا إلا ما ذكر أبو عمرو بن العلاء؛ فيما أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر المقرئ أخبرنا أبو طاهر عبد الواحد بن عمر بن محمد بن أبي هاشم حدثنا محمد بن العباس اليزيدي حدثنا الرياشي عن الأصمعي قال قال أبو عمرو : (( مَا نَحْنُ فِيمَن مَضَى إِلاَّ كَبَقْلٍ فِي أُصُوْلِ نَخْلٍ طـوَالٍ )) 
ولما جعل الله تعالى في الخلق أعلاماً، ونصب لكل قوم إماماً؛ لزم المهتدين بمبين أنوارهم، والقائمين بالحق في اقتفاء آثارهم، ممن رزق البحث والفهم، وإنعام النظر في العلم بيان ما أهملوا، وتسديد ما أغفلوا، إذ لم يكونوا معصومين من الزلل، ولا آمنين من مفارقة الخطأ والخطل، وذلك حق العالم على المتعلم، وواجب على التالي للمتقدم. " اهـ 
ويقول شيخ الإسلام 
وَأَيْضًا فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يُخْبِرُ عَنْ هَذِهِ الْفِرَقِ بِحُكْمِ الظَّنِّ وَالْهَوَى فَيَجْعَلُ طَائِفَتَهُ -وَالْمُنْتَسِبَةَ إلَى مَتْبُوعِهِ الْمُوَالِيَةَ لَهُ - هُمْ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ؛ وَيَجْعَلُ مَنْ خَالَفَهَا أَهْلَ الْبِدَعِ . وَهَذَا ضَلَالٌ مُبِينٌ . 
فَإِنَّ أَهْلَ الْحَقِّ وَالسُّنَّةِ لَا يَكُونُ مَتْبُوعُهُمْ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى فَهُوَ الَّذِي يَجِبُ تَصْدِيقُهُ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ ؛ وَطَاعَتُهُ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . 
فَمَنْ جَعَلَ شَخْصًا مِنْ الْأَشْخَاصِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَحَبَّهُ وَوَافَقَهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَمَنْ خَالَفَهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ - كَمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الطَّوَائِفِ مِنْ اتِّبَاعِ أَئِمَّةٍ فِي الْكَلَامِ فِي الدِّينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ وَالتَّفَرُّقِ . 
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِأَنْ تَكُونَ هِيَ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ ؛ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مَتْبُوعٌ يَتَعَصَّبُونَ لَهُ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهْم أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَقْوَالِهِ وَأَحْوَالِهِ وَأَعْظَمُهُمْ تَمْيِيزًا بَيْنَ صَحِيحِهَا وَسَقِيمِهَا وَأَئِمَّتُهُمْ فُقَهَاءُ فِيهَا وَأَهْلُ مَعْرِفَةٍ بِمَعَانِيهَا وَاتِّبَاعًا لَهَا : تَصْدِيقًا وَعَمَلًا وَحُبًّا وَمُوَالَاةً لِمَنْ وَالَاهَا وَمُعَادَاةً لِمَنْ عَادَاهَا 
الَّذِينَ يَرْوُونَ الْمَقَالَاتِ الْمُجْمَلَةَ إلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ ؛ فَلَا يُنَصِّبُونَ مَقَالَةً وَيَجْعَلُونَهَا مِنْ أُصُولِ دِينِهِمْ وَجُمَلِ كَلَامِهِمْ إنْ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ بَلْ يَجْعَلُونَ مَا بُعِثَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يَعْتَقِدُونَهُ وَيَعْتَمِدُونَهُ

 قال الذهبيُّ ـ رحمه الله ـ في السير (28 / 62 ) :
( .. قُلْتُ : مَا يَتَقَيَّدُ بِمَذْهَبٍ وَاحِدٍ إِلاَّ مَنْ هُوَ قَاصِرٌ فِي التَّمَكُّنِ مِنَ العِلْمِ ؛ كَأَكْثَرِ عُلَمَاءِ زَمَانِنَا، أَوْ مَنْ هُوَ مُتعصبٌ ..) .
وذكرَ الذهبيُّ في السير (31 / 59) في ترجمة أبي عليٍّ النيسابوري :
( .. قَالَ الخَلِيْلِيُّ : سَمِعْتُ الحَاكِمَ يَقُوْلُ : لَسْتُ أَقُولُ تعصُّباً ؛ لأَنَّه أُستَاذِي - يَعْنِي:أَبَا عَلِيٍّ - وَلَكِنْ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ..) ..
وقال شيخُ الإسلام :
( ... وقد قلت ـ فيما مضى ـ : ما ينبغي لأحد أن يحملَه تحنّنُه لشخصٍ وموالاتُه له على أن يتعصبَ معه بالباطل أو يعطل لأجله حدود الله تعالى !.... )
وقال أيضاً :
( ... وبهذا يتبين أن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله وهم اعلم الناس بأقواله وأحواله وأعظمهم تمييزا بين صحيحها وسقيمها وأئمتهم فقهاء فيها وأهل معرفة بمعانيها واتباعا لها تصديقا وعملا وحبا وموالاة لمن والاها ومعاداة لمن عاداها ...)
وقال أيضاً :
( ... وأما التعصبُ لأمرٍ من الامورِ بلا هدى من الله ؛ فهو من عمل الجاهلية ، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ...)
وقال أيضاً كلاماً رائعاً ـ رحمهُ الله ـ :

( ... وإذا كان الرجلُ متبعاً لأبى حنيفةَ أو مالكٍ أو الشافعي أو أحمدَ ، ورأى فى بعض المسائل أن مذهبَ غيره أقوى ؛ فاتبعه كان قد أحسن فى ذلك ، ولم يقدح ذلك فى دينه ولا عدالته بلا نزاع . 
بل هذا أولى بالحق ، وأحب إلى الله ورسوله ممن يتعصب لواحد معين غير النبى  ، كمن يتعصب لمالك أو الشافعي أو أحمد أو أبي حنيفة ويرى أن قول هذا المعين هو الصواب الذى ينبغى إتباعه دون قول الإمام الذى خالفه .. ) !


ثم غاية المتعصب لواحد منهم أن يكون جاهلا بقدره فى العلم والدين وبقدر الآخرين فيكون جاهلا ظالما والله يأمر بالعلم والعدل وينهى عن الجهل والظلم...)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية 
"
وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي عليها غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينصب لهم كلاماً يوالي عليه ويعادي غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يفرقون به بين الأمة، يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون ".


مفاسد التعصب

نصوص كثيرة ردت وهي في غاية الوضوح ... من أجل ماذا ؟ وما الذي حملهم على ردها أو تأويلها أو تحريفها ؟ إنما هو ذلكم الداء المقيت داء التعصب والعصبية العمياء ، والعياذ بالله وقد ذكر بعض العلماء ومنهم ابن القيم المفاسد التي تردى فيها المتعصبون للمذاهب فقال منها :

أولا : مخالفة النصوص الثابتة من الكتاب والسنة تعصبا للمذاهب ، وتقديم الرأي المحض أحيانا عليها .
ثانيا : كثرة الأحاديث الضعيفة والموضوعة والاحتجاج بها واستنباط الأحكام منها، حملهم التعصب وبعضهم يكذب ويفتري نصرة لمذهبه ، وكتب مصطلح الحديث فيها أمثلة من هذه النماذج لهؤلاء المتعصبين .
ثالثا : تقديم أقوال العلماء المتأخرين على أقوال الأئمة المتقدمين ، وقد أنحى أبو شامة في كتابه المؤمل باللائمة على أهل مذهبه الشافعية ، قال : إن الشافعية الأولين كانوا يتعصبون لأقوال أئمتهم لكن يأخذون من قول المزني وقول غيره وقد يردون أقوال بعض الصحابة وبعض التابعين ثم جاء المتأخرون فردوا كلام المزني وغيره وتعلقوا بكلام الغزالي وأمثاله وأنحى عليهم باللائمة في الكتاب وبين ما تردت إليه أوضاعهم وأحوالهم التي جرهم إليها التعصب الأعمى، والعياذ بالله.
رابعا : الانحباس في مذهب واحد وعدم الاستفادة من علم المذاهب الأخرى وجهود رجالها وكتبها تعصبا لمذهب معين .
خامسا : خلو كثير من الكتب المذهبية من الأدلة الشرعية ، ورغبة كثير عن دراسة الكتاب والسنة الى هذه الكتب .
سادسا : شيوع التقليد والجمود وإقفال باب الاجتهاد .
وقد اختلفت دعوى إقفال باب الاجتهاد متى كان هذا الإقفال ؟
فمنهم من يقول على رأس المائتين أغلق باب الاجتهاد ، ومنهم من يقول على رأس الأربعمائة ، ومنهم من يقول أغلق باب الاجتهاد على أحمد بن حنبل ، إلى آخر الأقوال القائمة على الجهل والهوى والتي دفع إليها التعصب الأعمى ، وإلا فكتاب الله هذا الكتاب الخالد كيف يقصر فهمه على أناس معينين وتقصر فائدته إلى أمد قصير ؟ ثم تعطل العقول ويضرب الله عليها الأقفال حتى لا يفهم الناس شيئا من دين الله تبارك وتعالى .
هذه دعوى إغلاق باب الاجتهاد مآلها أن حطم العقل الإسلامي ووقف سير المد الإسلامي في الفتوحات وفي العلوم الإسلامية نفسها وجنى على الأمة الإسلامية جناية خطيرة مما جعلها في مؤخرة الأمم .
إن أعداء الإسلام قد سخروا هذا الطاقات العقلية في مصالحهم فاخترعوا من المخترعات ما تعرفونه وما هو موجود الآن بين أيدينا ، فمنها السيارات ومنها الصواريخ ومنها آلات الزراعة وآلات الصناعة وآلات الحرب وأشياء لا حد لها، كيف يمنح الله أعداء الإسلام من يهود ونصارى وشيوعيين هذه العقول الجبارة فتخترع هذه الاختراعات المذهلة ثم يغلق الله على قلوبنا ويجعل عليها أقفالاً فلا نفهم كتاب الله ولا نفهم سنة رسول الله ولا نفهم شيئاً من أمور الحياة ؟ .
إنها لجناية كبيرة على الأمة الإسلامية سببت من الآثار الخطيرة المدمرة في حياة المسلمين ما يعيشونه الآن من تخلف فكري وعقلي في ميادين الدين والدنيا، نسأل الله تبارك وتعالى أن ينجد المسلمين ، وأن يغيثهم من هذه الكبوة وهذه الهوة التي وقعوا فيها ، وأن يهيئ لهم دعاة مخلصين لينقذوهم من هذا البلاء المدمر الذي ما هو إلا ثمرة من ثمار التعصب الأعمى والجمود أدى بهم إلى أشياء مضحكة كأن يتمسك الإنسان بجملة من النص ويحتج بها ويكون في الحديث جملة أخرى تدل على شيء يخالف مذهبه فيأخذ بما يوافق مذهبه من هذا النص المعين ويرد من هذا النص ما يخالف مذهبه .
سابعا : التشدد في بعض المسائل مما فيه عنت كبير على الناس ومما يجر عليهم وسوسة وما شابه ... تجدون ذلك في النية مثلاً.
حتى إنك لتقف في كثير من المساجد فلا تهنأ بالصلاة ولا تستحضر عظمة الله ولا تستطيع الخشوع فيها لأن بجانبك من يوسوس "الله أكبر ... الله أكبر ـ يزيد التكبير عشرات المرات ـ نويت نويت نويت" فهذه المذهبية والتعصب العقائدي والتعصب المذهبي ولهم ردود ومؤلفات كثيرة وممن تكلم عن هذا البلاء الخطير وعما انحدر عليه المتعصبون للمذاهب الفخر الرازي عند تفسير قوله تعالى(( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم و ما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه وتعالى عما يشركون )) (1).
قال عند تفسير هذه الآية عن أحد شيوخه المحققين "قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله في بعض المسائل وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات .. فلم يلتفتوا إلهيا وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب ، يعنى كيف يمكن العمل بظاهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت بخلافها(2).
هذه من أئمة الشافعية يشهد على أناس من أهل المذاهب أنهم يردون آيات قرآنية وإذا احتج الإنسان بالآيات يبهتون ويقفون مشدوهين كيف يمكن العمل بهذه الآيات وهي تخالف مذهبنا ؟ فهذا الرازي منتم لمذهب الشافعي لكن لا ينحدر به التعصب الأعمى إلى المنحدر الذي يهوى إليه كثير من المتعصبين . كذلك أبو شامة والنووي وابن حجر يعالجون بعض هذه القضايا .
أما ابن القيم رحمه الله وغيره فقد كتبوا في ذلك المؤلفات ، وما كتاب (إعلام الموقعين) للإمام ابن القيم ـ في أربعة مجلدات ـ إلا علاج لهذا البلاء الخطير ، بلاء التعصب الأعمى والتقليد الأعمى .
قال الفخر الرازي : (ولو تأملت حق التأمل لوجدت هذا الداء ساريا في عروق الأكثر من أهل الدنيا داء التعصب للمذاهب وللرأي وللفكر وللسياسة وللحزب سار في أكثر الناس ـ وكيف لو رأى وعايش وعاصر هذا الوقت ورأى فيه العجائب مما هو أدهى وأمر مما كان حاصلاً في عهده ؟
وقال بعد ذلك : ليس المراد من الآيات أنهم اعتقدوا فيهم أنهم آلهة العالم ، بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم ، ثم ذكر أوجهاً ثلاثة أخرى وقال : وكل هذه الوجوه الأربعة مشاهد وواقع في هذه الأمة) (3) أهـ .
وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال لعدي بن حاتم حينما دخل عليه وهو يتلو : (( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم ….)) الآية فقال يا رسول الله : (لسنا نعبدهم ، قال : أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه ؟ قال : بلى ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : فتلك عبادتهم(4).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معنى قوله تعالى : ((اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله)) وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله يكونون على وجهين :
الأول : أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على هذا التبديل فيعتقدون تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهو كفر ، وقد جعله الله ورسوله شركاً ، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم فكان من أتبع غيره في خلاف الدين ، مع علمه أنه خلاف للدين واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله ، مشركا مثل هؤلاء .
الثاني : أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال ثابتاً . لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصي فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب ، كما قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إنما الطاعة في المعروف)(5).
ثم ذلك المحرم للحلال والمحلل للحرام إن كان مجتهداً قصده اتباع الرسل لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر وقد اتقى الله ما استطاع فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه .
ولكن من علم أن هذا أخطأ فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه الله ، لاسيما إن اتبع في ذلك هواه ونصره باليد واللسان ، مع علمه أنه مخالف للرسول صلى الله عليه وسم فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه .
ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه ، وإنما تنازعوا في جواز التقليد للقادر على الاستدلال وإن كان عاجزاً عن إظهار الحق الذي يعلمه فهذا يكون كمن عرف أن دين الإسلام حق وهو بين النصارى فإذا فعل ما يقدر عليه من الحق لا يؤاخذ بما عجز عنه وهؤلاء كالنجاشي وغيره.
وأما من قلد شخصاً دون نظيره بمجرد هواه ، ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق فهذا من أهل الجاهلية ، وإن كان متبوعه مصيباً لم يكن عمله صالحاً ، وإن كان متبوعه مخطئاً كان آثماً . أهـ .
يعنى حتى لو كان متبوعه على الحق وهو تابعه بغير حجة ولا برهان فقط لأنه فلان . هذا آثم وإن كان متبوعه على الحق فيجب أن يتجرد الإنسان لله ويبحث عن الحق ويتبع أهله وينصر هذا الحق وينصر أهله ، هذا هو المطلوب من المؤمن .
وقد شاع التفرق والتحزب في هذا العصر المليء بالفتن والمكتظ بالكوارث وهو أمر خطير على الأمة في دينها ودنياها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
"
وليس للمعلمين أن يحزبوا الناس ويفعلوا مايلقي بينهم العداوة والبغضاء بل يكونون مثل الإخوة المتعاونين على البر والتقوى كما قال تعالى :((وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان )) (6). وليس لأحد منهم أن يأخذ على أحد عهداً بموافقته على كل ما يريده وموالاة من يواليه ومعاداة من يعاديه، بل من فعل هذا كان من جنس جنكيز خان وأمثاله الذين يجعلون من وافقهم صديقا ولياً ومن خالفهم عدواً بغيضاً . بل عليهم وعلى أتباعهم عهد الله ورسوله بأن يطيعوا الله ورسوله ويفعلوا ما أمر الله به ورسوله ويحرموا ما حرم الله ورسوله ويرعوا حقوق المعلمين كما أمر الله ورسوله ، فإن كان أستاذ أحد مظلوماً نصره وإن كان ظالما لم يعاونه على الظلم بل يمنعه منه ، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (انصر أخاك ظالما أو مظلوما)(7).
وهذا يكاد ينعدم الآن في الجماعات الإسلامية ينصر أخاه ظالماً أو مظلوماً على المنهج والطريق الجاهلي مع الأسف الشديد ! وهذا أمر معروف لاشك ، ولكن علينا أن نتوب إلى الله تبارك وتعالى ونرجع إلى هذا الحق الذي ربانا عليه رسول الله ، والذي يريده الله تباك وتعالى لنا أن نكون محبين للحق مناصرين له ، ثم قال بعد ذلك : فإن وقع بين معلم ومعلم وتلميذ وتلميذ ومعلم وتلميذ خصومة ومشاجرة لم يجز لأحد أن يعين أحدهما حتى يعلم الحق ، فلا يعاونه بجهل ولا بهوى بل ينظر في الأمر فإذا تبين له الحق أعان المحق منهما على المبطل سواء كان المحق من أصحابه أو أصحاب غيره ، وسواء كان المبطل من أصحابه أو أصحاب غيره ، فيكون المقصود عبادة الله وحده وطاعة رسوله واتباع الحق قال تعالى :(( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا)) (8). يقال : لوى يلوي لسانه فيخبر بالكذب ، والإعراض أن يكتم الحق فإن الساكت عن الحق شيطان أخرس ، ومن مال مع صاحبه سواء كان الحق له أو عليه فقد حكم بحكم الجاهلية وخرج عن حكم الله ورسوله .
والواجب على جميعهم أن يكونوا يداً واحدة مع المحق على المبطل فيكون المعظم عندهم من عظمه الله ورسوله ، ويكون المقدم عندهم من قدمه الله ورسوله ، والمحبوب عندهم من أحبه الله ورسوله ، والمهان عندهم من أهانه الله ورسوله ، بحسب ما يرضى الله ورسوله لا بحسب الأهواء ، فإنه من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه .
فهذا هو الأصل الذي عليه الاعتماد وحينئذ فلا حاجة إلى تفرقهم وتشيعهم ، قال تعالى : ((إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء))(9). وقال تعالى :(( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات )) (10) أهـ كلام ابن تيمية رحمه الله(11).
فيجب على كل مسلم أن يفتش نفسه فقد يميل إنسان إلى صاحب الحق لهوى ، فقبل أن يتبين له الحق يتمنى أن يكون فلان هو المنتصر بالحجة أو غيرها فتميل نفسه لأنه فلان ، ولو كان على الحق لا يجوز أن يوجد هذا الميل، فيقول: إذا وجد هذا الميل ولو مع صاحب الحق يكون من حكم الجاهلية ، وهذا أمر لا يخطر بالبال عند كثير من الناس .
فيجب على المسلم أن يراقب الله في القضايا المختلف فيها ، وأن يكون قصده فقط معرفة الحق سواء مع هذا أو مع ذاك .
ومن هنا يقول الشافعي : "إذا دخلت في مناظرة لا أبالي إذا كان الحق مع صاحبي أو معي" فلا يبالي ولا يتمنى أن يكون الحق معه بل يتمنى أن يكون مع صاحبه وأن تكون النصرة له ، هذا هو الخلق العالي وهذا هو الدين المستقيم .
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من هذه النوعيات المنصفة الباحثة عن الحق، البعيدة عن الهوى وعن أساليب الجاهلية .
فالذي يلزمنا معشر الإخوة أن نفتش أنفسنا فمن وجد في نفسه شيئا من هذا المرض فعليه أن يتدارك نفسه ويقبل على العلاج الناجع ويبحث دائما على الحق لينجو بنفسه من وهدة التعصب الأعمى الذي قد يؤدي إلى الشرك بالله تبارك وتعالى أو يؤدي إلى الضلال الخطير .

هذه لمحات موجزة عن التعصب وما أدى ويؤدي إليه من نتائج وخيمة كفى الله الأمة الإسلامية شرها ووفقها للعودة إلى كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم ومنهج سلفها الصالح ، وأخذ بناصيتها إلى كل خير ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

___________